الملخص التنفيذي
بعد أكثر من ثماني سنوات من النزاع المسلح، لا يزال السكان المدنيون في اليمن يتعرضون لانتهاكات وتجاوزات جسيمة للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان في مناخ يسوده الإفلات من العقاب. وقد يرقى العديد من هذه الانتهاكات إلى جرائم بموجب القانون الدولي مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. تتفاقم معاناة المدنيين لأنهم يواجهون واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، مع عدم وجود مؤشرات فورية على الغوث. يتحمل جميع أطراف النزاع ومن يدعمهم المسؤولية عن التسبب في هذه المعاناة الإنسانية وإدامة النزاع. ما من أيادي نظيفة في هذه الحرب المدمرة. إن المناشدات المرتفعة للضحايا وعائلاتهم، والتقارير العلنية، والدعاوى القضائية التي يقودها المجتمع المدني، والإحاطات المتكررة التي يقدمها خبراء الأمم المتحدة على مدى عدة سنوات، قد جعلت الدول، والجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك الجماعات المسلحة وشركات الأسلحة، والمجتمع الدولي على علم. ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يجهل الفظائع التي ارتكبت ولا تزال تُرتكب ضد المدنيين في اليمن.
ومع ذلك، لم تبذل أطراف النزاع سوى جهود ضئيلة أو معدومة لمساءلة المسؤولين عن الفظائع السالفة والراهنة، والتي قد يشكل الكثير منها جرائم دولية. إن السعي لتحقيق العدالة قد أصيب بـ"وباء الإفلات من العقاب". تحت ضغط مكثف من المملكة العربية السعودية (السعودية) والإمارات العربية المتحدة ، لم يتم تجديد ولاية الآلية الدولية المستقلة الوحيدة التي تحقق في جميع أطراف النزاع وتمهد الطريق للمساءلة – ألا وهي فريق خبراء الأمم المتحدة البارزين بشأن اليمن (فريق الخبراء البارزين) - من قِبَل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في عام 2021. قامت السعودية، بالشراكة مع الإمارات، بحملة ضغط قوية لإيقاف الفريق. منذ عام 2017، لعبت التقارير العامة من قبل الفريق دورًا مهمًا في معالجة - وإن بشكل محدود - الفجوة الواسعة في المساءلة. ومن خلال حل الفريق وتسريحه، أدار المجتمع الدولي ظهره للحجم الهائل من الانتهاكات والمعاناة التي لا يزال الشعب اليمني يكابدها. وما زالت الحاجة ملحة وضرورية إلى معالجة الفجوة الشاسعة في المساءلة.
يفحص هذا التقرير، الصادر عن مواطنة لحقوق الإنسان ومركز سيزفاير للحقوق المدنية، العديد من السبل لملاحقة المساءلة الجنائية عن الجرائم الدولية المرتكبة في اليمن منذ سبتمبر/ أيلول 2014. ويتمثل الهدف من هذا التقرير في تقييم الجدوى والآثار المحتملة لمتابعة كل من سبل المساءلة هذه، أخذا في الاعتبار الحقائق الراهنة للحرب الدائرة. يتم النظر في سبل المساءلة القائمة، ولا سيما النظام القضايا المحلية لأطراف النزاع، والمحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم المحلية الأجنبية في الدول الأخرى. كما يتم استكشاف إمكانية إرساء آليات مساءلة دولية جديدة، ألا وهي آلية تحقيق دولية مستقلة ذات تركيز جنائي، آلية تحقيق وتقرير مستقلة من المجتمع المدني ،ومحكمة جنائية دولية خاصة. لا ينبغي فهم السبل المختلفة للمساءلة المبينة في هذا التقرير على أنها خيارات قائمة بذاتها لضمان العدالة. فقد تعمل السبل بالتوازي وتتعاون في ضمان العدالة.
يركز هذا التقرير على المساءلة الجنائية، والتي تتعلق بالإجراءات القانونية الرامية إلى اثبات المسؤولية الجنائية الفردية للجناة عن تورطهم في جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو الإبادة الجماعية، أو غيرها من الجرائم الخطيرة، مثل التعذيب والاختفاء القسري. قد يشمل الجناة المحتملون المسؤولين السياسيين والعسكريين في الدول، وقادة وأعضاء الجماعات المسلحة من غير الدول أو القوات المدعومة أو المجنَّدة من الدولة، وكذلك مسؤولي الدول، والمديرين التنفيذيين للشركات، وفي بعض الولايات القضائية، الشركات كأشخاص اعتباريين مشاركين في نقل الأسلحة إلى الأطراف المتحاربة.
يقيم هذا التقرير الحجة في قضية السعي إلى تحقيق شكل شامل من المساءلة الجنائية. يستلزم ذلك مساءلة الجناة المنتمين إلى كافة أطراف النزاع على كامل نطاق الجرائم الدولية وغيرها من انتهاكات القانون الدولي ذات الصلة بالحرب في اليمن. ينبغي أن تتاح لجميع الضحايا إمكانية الوصول إلى العدالة والحصول على تعويضات عن الأضرار التي لحقت بهم. إن العدالة الأحادية الجانب أو الجزئية لا ترسي الأساس الصحيح لسلام دائم في اليمن. كما إن قرارات العفو التي تمنع التحقيق في الجرائم الدولية ومحاكمة مرتكبيها غير مسموح بها، كما هو معترف به بوضوح في القانون الدولي والأمم المتحدة. إن انكار العدالة لا يؤدي إلا إلى تأجيج الدورة التالية من العنف، وهو درس واضح من التجربة السابقة في اليمن حيث تلقى الرئيس السابق صالح وحكومته عفواً شاملاً. ولضمان إمكانية المساءلة الجنائية الفعليًة للجناة، فإن الخطوة الحاسمة الأولى تتمثل في جمع الأدلة وحفظها.
ومع ذلك، فإن الكفاح من أجل العدالة في اليمن لا يخلو من عقبات كبيرة. ولا تتوفر حاليًا سوى سبل قليلة للمساءلة عن الجرائم الدولية، وتلك الموجودة محدودة في قدرتها على الإسهام في المساءلة الجنائية الشاملة. يواجه السعي لتحقيق العدالة فشل الإرادة السياسية، وآليات االأطراف المتحاربة غير الموثوقة التي لا تلبي المعايير الدولية، وصراع مسلح مستمر يتسم بالإيذاء الجماعي وتورط عدد كبير من مرتكبي الجرائم المحليين والإقليميين والدوليين الأقوياء من خلفيات متنوعة، دول وغير دول.
التحقيقات والمقاضاة على المستوى المحلي : الدول ملزمة قانونًا بالتحقيق بموجب القانون الدولي في الجرائم المزعومة التي يرتكبها رعاياها أو قواتها المسلحة، أو داخل الإقليم الخاضع لولايتها القضائية، بغية محاكمة المشتبه بهم عند الاقتضاء. كما يُلزمها القانون الدولي بتوفير سبل انتصاف فعالة للضحايا، بما في ذلك الوصول المتكافئ والفعال إلى العدالة.
يفتقر نظام العدالة قي اليمن إلى القوانين والقدرات ذات الصلة، ويعاني من أوجه قصور عميقة الجذور، مثل الانتهاكات المتفشية لحقوق المحاكمة العادلة، مما يجعله غير قادر على ضمان المساءلة الفعالة وفقًا لمعايير للقانون الدولي لحقوق الإنسان المعترف بها. يتطلب نظام العدالة المجزأ الذي مزقته الحرب في اليمن إصلاحا شاملاً طويل الأجل. الأنظمة القضائية المحلية في السعودية والإمارات وإيران هي طرق غير متاحة بنفس القدر بسبب سجلها من الانتهاكات المتفشية لحقوق الإنسان، وعدم استقلال القضاء، والتلاعب من قبل السلطة التنفيذية. هيئات التحقيق التابعة للأطراف المتحاربة، مثل اللجنة الوطنية للتحقيق في الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان والفريق المشترك لتقييم الحوادث (الفريق المشترك) التابع للتحالف. وفشلت هذه الهيئات في تلبية المعايير المنصوص عليها في القانون الدولي لضمان المساءلة بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر مسائل الاستقلالية والمصداقية والشفافية. لم تكن الأطراف المتحاربة على استعداد لاتخاذ إجراءات جادة بشأن المساءلة الجنائية. ولم يكن للخطوات المحدودة التي يُزعم أنها اتخذت من قبل بعض الأطراف المتحاربة لتحميل الأفراد في صفوفها المسؤولية الجنائية خلال ما يقرب من عقد من الحرب إلا تأثير ضئيل أو معدوم. ولا يزال الإفلات من العقاب سائدا.
لذلك يدعو هذا التقرير المجتمع الدولي إلى اتخاذ إجراءات فورية لفتح سبل مستقلة للمساءلة على المستوى الدولي للتصدي للإفلات السافر من العقاب في اليمن وتمهيد الطريق نحو المساءلة والعدالة.
آلية تحقيق دولية مستقلة ذات تركيز جنائي: أنشأ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والجمعية العامة للأمم المتحدة آليات تحقيق ذات تركيز جنائي مع تفويضات بجمع وحفظ وتحليل الأدلة على الانتهاكات الجسيمة والجرائم بموجب القانون الدولي ارتكبت في دول مثل سوريا وميانمار هذه الآليات هي هيئات تحقيق فقط، دون سلطة القبض على الجناة أو إجراء محاكمات جنائية. وبدلاً من ذلك، فإنهم يدعمون إجراءات المساءلة الجارية أو المرتقبة من خلال تبادل الأدلة وملفات القضايا مع السلطات القضائية المختصة. وبالتالي، هناك سابقة قوية لإنشاء آلية مشابهة لليمن.
يحث هذا التقرير مجلس حقوق الإنسان و / أو الجمعية العامة للأمم المتحدة على إنشاء آلية تحقيق دولية مستقلة ذات تركيز جنائي في اليمن دون تأخير، تشمل ولايتها التحقيق في انتهاكات القانون الإنساني الدولي وانتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان، وتقديم تقارير علنية عن حقوق الإنسان في اليمن، فضلاً عن جمع الأدلة وتوحيدها وحفظها وتحليلها وإعداد ملفات القضايا من أجل تسهيل وتسريع عمليات المساءلة الجنائية الجارية أو المقبلة. منذ حُل فريق الخبراء البارزين في عام 2021، أصبحت الآلية التي تركز على الجرائم ذات الولاية القوية أكثر أهمية، ليس فقط لفضح الانتهاكات المروعة التي تُرتكب في اليمن للعالم، ولكن أيضًا للبدء في وضع الأساس للعدالة الجنائية الشاملة بحيث يمكن استغلال السبل المحتملة للمساءلة بشكل فعال الان و في المستقبل. قد تقدم المواد المحفوظة بواسطة هذه الآلية أيضًا مساهمات مهمة في عمليات المساءلة الأوسع، مثل التعويضات أو البحث عن الحقيقة. هناك حاجة ماسة إلى آلية دولية مستقلة حقًا لضمان المساءلة، وهو ما فشلت آليات التحقيق التابعة للأطراف المتحاربة في القيام به. يعد جمع الأدلة والحفاظ عليها أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق العدالة، وإلا فهناك خطر أن يتمتع مجرمو الحرب بالعفو الفعلي من خلال فقدان الأدلة أو إتلافها.
آلية تحقيق وإبلاغ مستقلة للمجتمع المدني : نظرًا لأن الأطراف المتورطة في الصراع اليمني قد قوضت بشكل فعال آليات الدولية الرسمية ، مثل فريق الخبراء البارزين التابع للأمم المتحدة الذي أغلق تحت ضغطها الهائل من السعودية والامارات في مجلس حقوق الانسان ، واستمرت المصالح السياسية في حجب إجراءات المساءلة ، أصبح استكشاف سبل بديلة للمساءلة خارج الاطار التقليدي أمرًا ضروري.
يشجع هذا التقرير المجتمع المدني على النظر في إنشاء آلية تحقيق وإبلاغ مستقلة تنضم إلى المنظمات الحقوقية المحلية والدولية الرائدة لتعزيز المساءلة والعدالة في اليمن. يمكن أن تعمل هذه الآلية جنبًا إلى جنب مع آليات المساءلة الأخرى في المستقبل ، مثل آلية التحقيق التي تركز على القضايا الجنائية بتفويض من الأمم المتحدة ، من خلال التحقيق والإبلاغ عن جميع الانتهاكات المزعومة والجرائم الدولية التي ارتكبتها جميع أطراف النزاع في اليمن منذ سبتمبر 2014 ، يمكن لآلية المجتمع المدني المستقلة هذه أن تسهم في ضمان محاسبة الجناة ، وتسهيل تعويض الضحايا ، وإرساء أساس متين للعدالة الانتقالية.
المحكمة الجنائية الدولية: بصفتها المحكمة الجنائية الدولية الدائمة الوحيدة، تتمتع المحكمة الجنائية الدولية بالولاية القضائية للتحقيق مع الأفراد الذين يتحملون أكبر قدر من المسؤولية عن أخطر الجرائم، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية ومقاضاتهم ومحاكمتهم. إن اليمن، ومعظم أعضاء التحالف، بما في ذلك السعودية والإمارات، وإيران ليسوا أطرافًا في المحكمة وبالتالي لا يخضعون من حيث المبدأ لولاية المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، هناك عدة مسارات لإطلاق الولاية القضائية على الحرب في اليمن.
في حين أن اليمن يمكن أن تصبح دولة طرفا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أو يمكنها مجرد قبول ولاية المحكمة الجنائية الدولية من خلال إصدار إعلان، لا توجد مؤشرات واضحة على وجود إرادة سياسية في اليمن لاستخدام أي من الخيارين لا طلاق ولاية المحكمة الجنائية الدولية على اليمن. ويمكن لمجلس الأمن الدولي أن يتجاوز هذا التراخي على الفور من خلال إحالة الوضع في اليمن إلى المحكمة الجنائية الدولية وتكريس ولاية المحكمة على جميع أطراف النزاع. يدعو هذا التقرير إلى مثل هذه الإحالة العاجلة، والتي من شأنها أن تسهم بشكل كبير في معالجة الإفلات من العقاب في اليمن. وعلى الرغم من أن أعضاء مجلس الأمن الدولي لديهم سلطة إحالة الوضع في اليمن على الفور – علما بأن خطورة الوضع تستدعي ذلك بالتأكيد - إلا أن المناخ السياسي الحالي في مجلس الأمن يجعل احتمالية اتحاذ هذا الإجراء بعيدة المنال. ومع ذلك، ثمة خيار آخر لا يزال ممكنا: يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تحقق في الجرائم المزعومة المرتكبة في اليمن والتي تشمل رعايا دول أخرى أطرافا حاليًا في نظام روما الأساسي، بما في ذلك الأردن العضو في التحالف، والدول التي تنقل الأسلحة مثل المملكة المتحدة وفرنسا، أو بلدان أخرى أفادت التقارير بأنه تم تجنيد مرتزقة أو مواطنين منها بما في ذلك في المناصب العسكرية العليا. وفي حين ينبغي للمحكمة الجنائية الدولية أن تطالب بالولاية القضائية عندما تكون هذه الدول عاجزة أو غير راغبة في الوفاء بواجبها المتمثل في التحقيق مع الجناة ومقاضاتهم بصدق، فإن أولئك الذين يتحملون المسؤولية الأكبر في صفوف بعض الأطراف المتحاربة قد يظلون خارج الملاحقة القضائية كليًا أو جزئيًا. إذا كانت للمحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية، فهناك العديد من المزايا البارزة، مثل قدرة المحكمة على المساهمة في المساءلة الجنائية الشاملة، في حالة إحالة مجلس الأمن الدولي، وتفعيل نظام التعويضات. ومع ذلك، يجب تخفيف التوقعات لأن المحكمة الجنائية الدولية لا يمكنها أبدًا تحقيق درجة من العدالة إلا فيما يتعلق بعدد محدود من الجناة والضحايا.