يعاني اليمن، وعلى مدى عقود من تاريخه المعاصر، حالةً من انعدام الاستقرار السياسي. حتى تلك الفترات التي أعقبت توحيد شطري اليمن في مايو/أيار 1990 وشهدت استقرارًا نسبيًا، تخللتها الكثير من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك نزاعات مسلحة متفرقة، وصولًا إلى حرب صيف 1994 التي نشبت بين طرفين تزعمهما كلًا من رئيس الجمهورية -آنذاك- علي عبد الله صالح، ونائبه علي سالم البيض.
تلا ذلك ما عُرف بحروب صعدة الست، التي اندلعت بين الحكومة اليمنية وجماعة أنصار الله (الحوثيين) في الفترة ما بين 2004-2010.
جنوبًا، أدّى حراك جمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين المسرّحين من أعمالهم على خلفية أحداث 1994 إلى تأسيس ما يُعرف بالحراك الجنوبي، الذي أُعلن عن انطلاقه مطلع عام 2007. بدأت مطالبه بحقوق متساوية وعودة المسرّحين، وإصلاح مسار الوحدة، ثم تصاعدت إلى الدعوة بالانفصال واستقلال جنوب اليمن عن شماله.
بالتزامن مع كل ذلك، خاضت الدولة حروبًا ضد الجماعات الإرهابية في عدد من المحافظات. والتبعات الناتجة عن سياسة الحكومة اليمنية للتعاطي مع الحرب على الإرهاب المعلنة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، والتي اتخذها التحالف الدولي برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ذريعةً ومنطلقًا لتنفيذ هجمات جوية في مناطق متفرقة من اليمن، ضمن ما أسمته بالحرب على الإرهاب في استخدامٍ خاطئ للقانون الدولي والجنائي وتجاوزٍ لمبادئهما.
من بين أمور أخرى، بالإضافة إلى جملة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية حتى العام 2011، وبالتزامن مع قيام ما عُرف بثورات الربيع العربي، بدأت في اليمن انتفاضة شعبية طالبت بالإصلاحات الاقتصادية والدستورية وعدم التوريث. مرّت بمراحل وأحداث عديدة قادت إلى المطالبة بإسقاط نظام الحكم بقيادة الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح.
تخلل مرحلةَ الانتفاضة الشعبية تلك، استخدامٌ واسع للعنف في قمعها، والعديد من الاشتباكات المسلحة بين قبائل وقوى مناصرة للثورة وقوات النظام. انتهت تلك المرحلة بتوسط دول مجلس التعاون الخليجي من خلال ما عُرف بالمبادرة الخليجية المزمنة؛ وهي وثيقة عابرة للدستور قضت بنقل السلطة بشكل سلمي إلى رئيس توافقت عليه قيادات حزبية وسياسية، هو نائب الرئيس -آنذاك- عبد ربه منصور هادي. وتم تنظيم ما يشبه الاستفتاء لتنصيبه، أُطلق عليه حينها انتخابات.
بدأت بعد ذلك المرحلة الانتقالية، عُقد خلالها الحوار الوطني الشامل، وصيغت خلالها مسودة دستور جديد للبلاد، ونُفذت عمليات إعادة هيكلة الجيش اليمني. توصلت الأطراف المشاركة في الحوار إلى اتفاق مبدئي حول القضايا الجوهرية المتمثلة بشكل الدولة وطبيعة النظامين السياسي والانتخابي، وطرحت حلولًا لمعالجة القضايا الهامّة، كقضيتي صعدة والحراك الجنوبي التي استمرت سنوات في ظلّ نظام صالح.
من ناحية أخرى، شهدت المرحلة الانتقالية ارتفاعًا في نسبة الاغتيالات والتصفيات السياسية، والتفجيرات، والعمليات الإرهابية، إضافة إلى تذبذب في مستويات الخلاف المباشر بين الأطراف السياسية، وفي مقدمتها جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والقوات الحكومية، وتشكيلات تابعة لحزب التجمع اليمني للإصلاح وقوى أخرى.
دارت العديد من الاشتباكات المسلحة بين مسلحي جماعة أنصار الله (الحوثيين) وقوات حكومية وتشكيلات تابعة للتجمع اليمني للإصلاح، في كلٍّ من صعدة وعمران ومناطق أخرى. علاوة على ذلك، سعى تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية إلى استغلال انعدام الاستقرار السياسي وضعف الأنظمة الأمنية في تلك الفترة للسيطرة على بعض المناطق الهامّة في كلٍّ من محافظتي أبين والبيضاء، مما تسبب في اندلاع العديد من الاشتباكات بينه وبين القوات الحكومية.
في 21 سبتمبر/أيلول 2014، سيطرت جماعة أنصار الله (الحوثيين) على العاصمة اليمنية صنعاء بالقوة، ليبدأ النزاع المسلح في اليمن، والذي لا يزال مستمرًا حتى تاريخ تحرير هذه الوثيقة، وما ساهم في زيادة تعقيد هذا النزاع وإطالة مدته هو تدخل أطراف دولية وإقليمية في النزاع، بما في ذلك تشكيل تحالف من أكثر من عشر دول بقيادة السعودية والإمارات لتنفيذ عملية عسكرية في اليمن، عُرفت بعاصفة الحزم. جاء ذلك تحت مبررات استعادة الشرعية في اليمن، والقضاء على المتمردين والتهديد الذي تمثله جماعة أنصار الله (الحوثيين) لليمن والمنطقة، بحسب بيان الإعلان عن العملية الذي صدر في 26 مارس/آذار 2015. بالإضافة إلى تدخل أطراف دولية في النزاع بصورة غير مباشرة، سواء من خلال إمداد الأطراف المتنازعة في اليمن بالسلاح أو تقديم الخدمات والدعم اللوجستي لهذه الأطراف، مثل تزويد طائرات التحالف بالوقود أثناء تنفيذها الطلعات الجوية في اليمن، وتقديم خدمات الصيانة والدعم الاستخباراتي وغير ذلك. ومن بين تلك الدول الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وإيران وغيرها من الدول.
على مستوى آخر، وخلال سنوات النزاع الماضية، تعددت أطراف النزاع في اليمن بفعل انقسامات الأطراف الرئيسية فيها أو تشكُّل ودخول أطراف جديدة إلى دائرة النزاع. أدى ذلك في النهاية إلى تشكيل ما يزيد عن خمسة أطراف نزاع رئيسية، هي: قوات الحكومة المعترف بها دوليًا، وجماعة أنصار الله (الحوثيين)، وقوات التحالف بقيادة السعودية والإمارات، وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي بتشكيلاته المختلفة، والقوات المشتركة بقيادة طارق صالح، بالإضافة إلى تواجد محدود لما يُعرف بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب في عدد من المحافظات، أبرزها شبوة وأبين والبيضاء.
تباينت أهداف أطراف النزاع، ومن خلفها أهداف القوى الداعمة، خلال سنوات النزاع الماضية. ومثّل النزاع، في أبرز جوانبه، صراعًا من أجل السيطرة على المناطق الاستراتيجية ومناطق الثروات، وتوسيع الانقسامات المجتمعية.
في ظل تعدد أطراف النزاع وتقاسم الرقعة الجغرافية للجمهورية اليمنية بين هذه الأطراف، بات كل طرف يتعامل مع المناطق الواقعة تحت سيطرته باعتبارها دولًا قائمة بذاتها، من خلال سنّ اللوائح والقوانين الخاصة، وابتداع أنواع مختلفة من القيود بما يتناسب مع مساعيه في فرض السيطرة وإثبات الغلبة. أدى ذلك إلى مفاقمة معاناة اليمنيين بمختلف أطيافهم، وتنوع القيود المفروضة عليهم.
تخلل النزاع عدد من الهُدن الإنسانية، كان آخرها الهدنة التي تم التوصل إليها برعاية الأمم المتحدة في أبريل/نيسان 2022، وانتهت في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه. كما شهد النزاع محاولات مختلفة للتوسط بين أطراف النزاع بجهود دولية أو إقليمية. جرت الكثير من المباحثات في الغرف المغلقة وبسرية تامة، دون إشراك المجتمع المدني أو حتى اطلاعه على مواضيع المباحثات ونتائجها. إلا أن الأطراف اليمنية لم تدخل في مفاوضات يمنية مباشرة.
حتى تاريخ صياغة هذه الوثيقة، لم تتوصل أطراف النزاع إلى تفاهمات أو اتفاقات نهائية بوقف إطلاق النار ووضع خارطة طريق، في الوقت الذي بات واضحًا لدى الأطراف استحالة تحقيق حسم أو انتصار عسكري لأحدها، وأن الحل الوحيد أمام اليمنيين، وعلى رأسهم أطراف النزاع، هو الحل السياسي عن طريق المفاوضات والحوار، والتوصل إلى توافقات مشتركة.
موجز لتبعات وآثار النزاع المسلح في اليمن على مدى سنوات النزاع الماضية:
خلال فترات النزاع الحالي الممتدة، تسببت أطراف النزاع المختلفة بمقتل وجرح الآلاف من اليمنيين بطرق مختلفة، منها القصف البري والقصف الجوي والرصاص الحي، والألغام والأجسام المتفجرة ومخلفات الحرب، والدهس بالعربات العسكرية. كما مارست الأطراف طيفًا واسعًا من الانتهاكات الأخرى، على رأسها الاحتجاز التعسفي، والاختفاء القسري، والتعذيب، والقتل خارج إطار القانون. وارتفعت نسب الانتهاكات القائمة على النوع الاجتماعي والعنف الجنسي، سواء تلك التي مورست من قبل أفراد تابعين لأطراف النزاع أو في أوساط المدنيين، كنتيجة للانفلات الأمني وغيره من الأسباب.
تعرضت البنية التحتية والأعيان المدنية على امتداد اليمن، وفي مقدمتها المنشآت التعليمية بأنواعها، والمنشآت الصحية، والمنشآت الخدمية والصناعية العامة والخاصة، وقطاعات المياه والكهرباء والاتصالات، والجسور والطرقات والمطارات ومحطات توليد الطاقة والموانئ، وغيرها من الأعيان، للاستهداف المباشر من قبل أطراف النزاع. أدى ذلك إلى تدمير العديد منها، إما بشكل كلي أو جزئي، وخروج العشرات منها عن الخدمة في فترات متفاوتة، بالإضافة إلى تدمير مئات المنازل والوحدات السكنية، وموجات عالية من النزوح.
شهدت فترة النزاع الراهن انتشارًا للعديد من مراكز الاحتجاز غير الرسمية، والتحاق الآلاف من المواطنين غير المؤهلين بالمقاتلين في صفوف أطراف النزاع المختلفة، وهو ما هيأ بيئة خصبة لممارسة أنواع مختلفة من الانتهاكات، وتسبب في حالة من الانفلات الأمني التي ساهمت هي الأخرى في انتشار الكثير من الاعتداءات والممارسات الوحشية واللاإنسانية في أوساط المجتمع اليمني من المدنيين.
وخلال السنوات الماضية من عمر النزاع الحالي في اليمن، جندت الأطراف آلاف الأطفال، وازدادت نسب التسرب من التعليم والتسول في أوساطهم، وارتفعت نسب زواج القاصرات.
كذلك، أُصيب المئات من اليمنيات واليمنيين، بما في ذلك الأطفال، بإعاقات دائمة نتيجة لأشكال مختلفة من الانتهاكات، على رأسها الألغام والأجسام المتفجرة. وازدادت الفئات الضعيفة والأقليات، بما في ذلك الأقليات الدينية (كالبهائيين وذوي الإعاقة والنساء والأطفال)، تهميشًا وضعفًا، وكانت أكثر عرضة للاستهداف والمعاناة مقارنة بغيرها من فئات المجتمع اليمني.
من زاوية أخرى، انعكس الانقسام السياسي والعسكري على الاقتصاد، وبرزت أهم آثاره في وجود طبعتين نقديتين مختلفتين في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) ومناطق سيطرة الأطراف الأخرى، وفوارق كبيرة في سعر الصرف، وانقطاع مرتبات موظفي الخدمة المدنية في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على وجه الخصوص ومناطق أخرى لما يقارب سبع سنوات من عمر النزاع. كما تعطل العديد من القطاعات والمنشآت الخدمية والصناعية، وبرزت شحة كبيرة في فرص العمل، مما تسبب في فقدان ملايين اليمنيات واليمنيين مصادر دخلهم الرئيسية. على الصعيد نفسه، انعكس هذا الانقسام بشكلٍ حاد على السلطة القضائية بأجهزتها المختلفة، وبرز في صورة ممارسات وقرارات مختلفة، وتعديلات تشريعية غير قانونية تبنتها سلطات أطراف النزاع في أوقات متفرقة من عمر النزاع.
كما أن التجويع كان أحد أساليب الحرب التي ابتدعتها الأطراف، ونتيجة مباشرة لها في آن. فقد تسبب الحصار المفروض على إدخال البضائع، في شحة المواد والسلع، بما فيها الأساسية، بالإضافة إلى الحصار الذي فرض على مناطق مختلفة نتيجة لانقطاع الطرق الرئيسية، والانتهاكات المختلفة التي تعرضت لها قطاعات المياه والطاقة والكهرباء. كل ذلك أدى إلى ندرة المواد والسلع والخدمات الأساسية في فترات متفاوتة من عمر النزاع، علاوة على ارتفاع أسعارها في ظل انعدام أو محدودية مصادر الدخل بالنسبة لملايين اليمنيين، مما جعل الحصول عليها بالكميات الكافية أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة لهم.
علاوة على ذلك، أدى فرض الجبايات وتعدد أنواعها على مختلف المهن والأنشطة، لا سيما في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والاشتراطات والقيود الموسعة المفروضة على ممارسة الكثير من الأنشطة، وعلى رأسها الأنشطة التجارية، إلى ازدياد نسب التجويع والفقر. كما فاقم انتشار الألغام ومخلفات الحرب في الطرق الرئيسية والحقول الزراعية والمراعي وبالقرب من مصادر المياه وأماكن جمع الحطب أزمة انعدام مصادر الدخل. إلى جانب الأنواع المختلفة من القيود التي فرضتها أطراف النزاع على وصول المساعدات الإنسانية إلى المستهدفين من الفئات الأشد فقرًا، مما جعل السواد الأعظم من اليمنيين، نتيجة لتلك الممارسات، عاجزين عن تلبية احتياجات أسرهم الأكثر إلحاحًا، مثل الغذاء، والمسكن، والصحة، والتعليم، والماء النظيف، وانعكست هذه الحالة في صورة حرمان من الوصول لمعظم الحقوق الأساسية، وارتفاع نسب الفقر والأمراض والأوبئة والجهل وغير ذلك.
خلال السنوات الماضية من عمر النزاع، فرضت الأطراف قيودًا مختلفة على نشاط مؤسسات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان، وقيودًا مضاعفة على الحريات العامة والشخصية، بما في ذلك حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي.
تسبب النزاع وتبعاته المختلفة، وسياسات أطرافه، في احتقان مجتمعي كبير وانقسام حاد. وحاولت الأطراف نقل الصراع من مستواه السياسي إلى مستوى أيديولوجي، مما جعل صراع الهويات بُعدًا جديدًا من أبعاد النزاع الحالي، قد يكون الأشد خطورة بين الأبعاد الأخرى. وقد رأت الأطراف في صبغ النزاع بهذا الطابع وسيلة فعّالة لكسب التأييد، وتحريض المقاتلين التابعين لها وتأليبهم، وتأسيس مشروعية لتواجدها وتمكينها في يمن ما بعد النزاع على أسس دينية أو عرقية أو مناطقية.
بشكل موجز، يمكننا القول إن النزاع المسلح الحالي بتبعاته المختلفة ترك تأثيراته السلبية الحادة على مختلف القطاعات السياسية، والعسكرية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وأدى إلى انتهاك مختلف الحقوق والحريات الإنسانية بنسب متفاوتة، وتسبب في تدمير البنية التحتية بمختلف قطاعاتها. وطالت المعاناة الناتجة عنه كل فرد في المجتمع اليمني بدرجات مختلفة. في الوقت ذاته، يعد النزاع الراهن حلقة واحدة من سلسلة طويلة من دورات النزاع، التي تخللها ارتكاب طيف واسع من الانتهاكات وانتشار المظالم بمختلف أشكالها، والتي كانت نتيجة لجملة من الإشكالات المزمنة المتفاقمة، على رأسها نوازع الاستفراد بالسلطة، والإقصاء الناجم عن عدم وجود آليات سليمة وفعّالة لإدارة التنوع الثقافي والسياسي والفكري على امتداد اليمن، وغياب دولة القانون والمواطنة المتساوية، علاوة على عدم قدرة الدولة على الاحتكار الشرعي لوسائل العنف، مما أنتج جماعات ومكونات مسلحة داخل الدولة ساهمت في زعزعة الاستقرار وتقويض الدولة في أوقات كثيرة، آخرها النزاع الراهن. بالإضافة إلى ذلك، ضعف السلطة القضائية وعدم استقلالها باعتبارها السلطة الضامنة لتحقيق المساواة أمام القانون وضمان الحقوق وتحقيق العدالة.
ومن بين الأمور التي ساهمت في مفاقمة أزمة اليمنيين على مدى عقود، انعدام الثقة بين الأطياف السياسية، والانتقال من مرحلة إلى أخرى في السياق اليمني دون إيجاد معالجات حقيقية لآثار دورات النزاع السابقة وإفرازاتها، وعدم الانخراط في عمليات عدالة انتقالية ومصالحات وطنية حقيقية على امتداد التاريخ اليمني. وقد جعل ذلك اليمنيين ينتقلون من مرحلة إلى أخرى وهم مثقلون بتبعات الفترات السابقة لها، وملفاتها وجراحاتها التي ما تلبث أن تنعكس في دورة نزاعات جديدة، جل أسبابها تكمن في الاحتقان والرغبة في الانتقام، والتعامل مع المختلفين في السلطة أو خارجها كخصوم. كل ذلك وغيره حال دون بناء دولة يمنية حديثة قائمة على سيادة القانون والمواطنة المتساوية، وصون وتعزيز الحقوق والحريات الأساسية لكل فرد فيها.
ولذا، فإن على اليمنيين هذه المرة، وبمجرد انتهاء دورة النزاع الحالية، الوقوف أمام أخطائهم وعدم السماح بتكرارها، والعمل على معالجة الآثار والإشكالات التي من شأنها أن تقود اليمن إلى دورات نزاع قادمة.
المكاشفة والمصالحة الحقيقية والإنصاف باتت ضرورات ملحة في المستقبل اليمني أكثر من أي وقت مضى. ومن الضروري العمل على إيجاد معالجات مدروسة لمختلف الإشكالات الجوهرية، تبدأ من تشخيصها بشكل سليم وتنتهي بإيجاد حلول ومعالجات حقيقية ودائمة في ضوء مبادئ عامة ومحددات جامعة لكل اليمنيات واليمنيين.
نبذة عن الوثيقة:
وثيقة "مبادئ لمّ الشمل، وبناء الدولة اليمنية الحديثة" هي عبارة عن جملة من المبادئ والمحددات والغايات الأساسية التي يجب أن تمثّل الأساس الأول والغايات النهائية لأي عمليات وجهود من شأنها انتشال اليمن ومجتمعه وقواه من حالة الشتات والاحتراب واللاقانون والظلم، إلى مستقبل لائق بجميع اليمنيات واليمنيين قائم على العدالة، وصون الحقوق والحريات، وسيادة القانون، والمواطنة المتساوية، وقيم التسامح والتعايش، ومبني على المكاشفة والمصالحة والإنصاف، والاعتراف بالمظالم والإشكالات الجوهرية للمجتمع والقوى، وتشخيصها ومعالجتها.
إن هذه الوثيقة تمثل رؤى منظمة "مواطنة لحقوق الإنسان"، والمجتمع المدني، للمبادئ التي يجب أن يُبنى عليها يمن ما بعد النزاع. وهذه الوثيقة لا تشمل خططًا عملية مفصّلة للجوانب التي تضمنتها، فهي لا تخرج عن كونها مبادئ عامة ومحددات وغايات أساسية. كما أنها لا تتناول قضايا جوهرية مثل شكل الدولة وطبيعة النظامين السياسي والانتخابي، على أهمية هذه القضايا وجوهريتها، كون هذه القضايا يجب أن تخضع للدراسة والنقاش والاستفتاء من قبل أبناء المجتمع ككل، وفي إطار عمليات وآليات مختلفة يتم التوافق عليها.
وأيًّا كان شكل الدولة (فيدرالية أو بسيطة)؛ فإن ما تهتم به هذه الوثيقة هو التأكيد على دولة الوحدة، ووحدة الأرض والإنسان والجغرافيا كأصلٍ ثابت في دولة ما بعد النزاع. وأيًا كانت طبيعة النظام السياسي (برلمانيًا أو رئاسيًا أو مختلطًا)؛ فإن ما تركز عليه الوثيقة هو أن يكون نظامًا جمهوريًا. وأيًا كان نوع النظام الانتخابي؛ فإن ما تعنى به الوثيقة هو أن يسمح النظام الانتخابي بتداول سلمي حقيقي للسلطة، ويكفل تفعيل الآليات الديمقراطية والتمثيل العادل. وينطبق الأمر نفسه على إشكالات وقضايا جوهرية أخرى لا تتناولها هذه الوثيقة، كونها -وكما سبق الذكر- تمثل مجموعة من المبادئ والمرتكزات، التي يجب أن تتوفر في دولة ما بعد النزاع بغض النظر عن شكلها أو طبيعة النظام السياسي والانتخابي فيها وغير ذلك.
منهجية إعداد الوثيقة
صيغت المسودة الأولية لهذه الوثيقة تحت عنوان "مسودة إعلان المستقبل اليمني" من قبل منظمة "مواطنة لحقوق الإنسان"، وطرحت للنقاش لأول مرة ضمن جلسات اليوم الثاني لمؤتمر "إرث البارود" الذي أقامته "مواطنة" في الفترة من 11-12 سبتمبر/أيلول 2024، حيث تم توزيع المسودة وفتح المجال لاستقبال الملاحظات من قبل المشاركين في المؤتمر عن طريق بريد إلكتروني ورقم هاتف تم طباعتهما على غلاف المسودة.
وفي يوم الثلاثاء 24 سبتمبر/أيلول 2024، تم عقد ورشة عمل لمناقشة المسودة في مقر منظمة "مواطنة" الرئيسي بصنعاء، حضرها عدد من أساتذة علم الاجتماع، والأكاديميين، والقضاة، والمحامين، والصحفيين، بالإضافة إلى فريق من منظمة "مواطنة"، على رأسهم رئيسة المنظمة ونائبها والمدير التنفيذي.
تمت إعادة صياغة المسودة من قبل فريق منظمة "مواطنة لحقوق الإنسان"، بما في ذلك تغيير اسم المسودة إلى "مبادئ لمّ الشمل، وبناء الدولة اليمنية الحديثة" في ضوء الملاحظات التي طرحها المشاركون في الورشة. ثم مرت المسودة الثانية -عقب استيعاب الملاحظات المطروحة والتي تتلاءم مع طبيعة المسودة- بدورة مراجعة ثانية، حيث تمت مشاركتها مع عدد من القضاة والمحامين وأساتذة علم الاجتماع والصحفيين والأكاديميين، وتم تزويد الفريق العامل على المسودة بملاحظات مكتوبة، وتم استيعاب ما يتناسب مع طبيعة الوثيقة من تلك الملاحظات في المسودة النهائية التي طرحت للنقاش والإقرار ضمن ورشة بتاريخ 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. كما تمت الاستجابة للملاحظات الإضافية ومراجعة شكلها ومضمونها النهائي، وصولًا إلى إقرار الوثيقة النهائية.
مرجعيات الوثيقة
تستند هذه الوثيقة إلى عدد من المرجعيات الرئيسية، وهي:
1- مبادئ وأهداف وقيم ثورتي 26 سبتمبر/أيلول 1962، و14 أكتوبر/تشرين الأول 1963، وإعلان الاستقلال الصادر في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967.
2- مبادئ وأهداف وقيم ومكتسبات دولة الوحدة اليمنية 22 مايو/أيار 1990.
3- دستور دولة الوحدة المستفتى عليه عام 1991.
4- مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل.
أهداف الوثيقة
تتلخص الأهداف العامة للوثيقة في هدفين هما:
1- تشخيص الإشكالات الجوهرية التي يعاني منها اليمن، أو التي أفرزها النزاع بتبعاته المختلفة.
2- تقديم مبادئ عامة ومرتكزات رئيسية، والتأكيد على الغايات التي يجب أن تقوم عليها دولة ما بعد النزاع في اليمن.
وانطلاقًا من الهدفين السابقين تتمثل أهم أهداف الوثيقة الرئيسية في:
أ- إنهاء حالة النزاع القائمة في البلاد في أقرب وقت.
ب- إنهاء حالة الانقسام، والانتقال إلى مرحلة بناء السلام على كامل الأرض اليمنية.
ج- معالجة الآثار التي خلفها النزاع على مستوى المؤسسات والهيئات والقطاعات والأفراد.
د- إعادة بناء وإصلاح سلطات الدولة ومؤسساتها، وعلى رأسها جهازي الأمن والجيش، وجهاز العدالة، على أسس وطنية متينة، ووفق معايير مهنية وموضوعية بحتة.
ه- اعتبار النظام الجمهوري والديمقراطية، ومبادئ وأهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وإعلان الاستقلال 30 نوفمبر، ومبادئ ومكتسبات الوحدة اليمنية 22 مايو، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني، مرتكزات لأي مفاوضات سياسية تفضي إلى الوصول لحل سياسي شامل.
و- العمل على بث روح الأخوة بين أبناء الشعب اليمني، ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، ونبذ الفرقة، ومحاربة كل أشكال التمييز الطبقي، والعنصري، والمذهبي، وأي اعتبارات تمييزية أخرى.
الفئات المعنية بالوثيقة
هذه الوثيقة مقدمة بدرجة رئيسية إلى أطراف النزاع المحلية، وكافة الأطياف السياسية اليمنية، وإلى الأطراف الإقليمية والدولية، بما فيها الدول الراعية لجهود السلام، وإلى الأمم المتحدة ممثلة بأمينها العام ومبعوثها إلى اليمن كوسيطٍ راعٍ لأي اتفاقات سلام في اليمن، للتعامل معها كوثيقة أساسية للمبادئ والقيم التي يتطلع اليمنيون إلى بناء دولة المستقبل وفقها. وهي أخيرًا موجهة إلى الخبراء والأكاديميين والناشطين ومؤسسات المجتمع المدني لدراستها، وتطويرها، والبناء عليها، والضغط لتبنيها والالتزام بها، ووضع الخطط والبرامج التفصيلية لتنفيذ مختلف جوانبها.
الإطار الزمني للعمل بالوثيقة
الأفكار والقضايا التي تضمنتها هذه الوثيقة ينبغي أن تشكل إطارًا مرجعيًا يؤخذ بعين الاعتبار أثناء الحوار والتفاوض لإنهاء النزاع، وفي فترة بناء السلام والمصالحة الوطنية وإعادة بناء الدولة، بحيث لا تتضمن كل تلك المراحل ما يحول دون تمكّن اليمنيين من تحقيق أي من التطلعات والمبادئ التي تضمنتها الوثيقة كحقوق ومتطلبات ومرتكزات أساسية للغالبية العظمى من اليمنيات واليمنيين على امتداد اليمن.
المحاور الرئيسية
أولاً: إنهاء النزاع وبناء الثقة
حث الأطراف اليمنية، وفي مقدمتها الحكومة المعترف بها دوليًا، وجماعة أنصار الله "الحوثيين"، والمجلس الانتقالي الجنوبي بتشكيلاته المختلفة، والقوات المشتركة، والقوى والأحزاب الأخرى المنخرطة والفاعلة في النزاع، على العمل من أجل إنهاء النزاع القائم بشكل دائم، والمضي في خطوات حقيقية نحو المصالحة الوطنية، والحوار المنفتح والمسؤول حول مختلف القضايا والإشكالات الجوهرية، وعلى هذه الأطراف إدراك أن الحل الوحيد لإنهاء النزاع يتمثل في الحل السياسي، وأن مسؤوليتهم الأخلاقية تجاه الشعب اليمني، ومعاناته، والأزمات الممتدة التي يعيشها، وتجاه تجنيب اليمن واليمنيين من الدخول في دورات عنف أكثر ضراوة وأزمات أشد حدة، تفرض عليهم التوصل إلى اتفاق لإنهاء النزاع بشكل دائم. كونهم وحدهم، دون غيرهم من أبناء المجتمع اليمني، القادرين على ذلك. كما أن تحقيق السلام وإنهاء الصراع مرهون بدرجة أساسية بإرادتهم ومساعيهم لتحقيق ذلك، وتحديد الأولويات والقضايا التي يمكن التفاوض حولها لتحقيق سلام دائم، كون القضايا والإشكالات على اختلافها ومهما كان حجمها أو طبيعتها، قابلة للحل، ويمكن التوصل إلى توافقات حولها ومعالجتها طالما توفرت الإرادة السياسية الحقيقية لدى هذه الأطراف.
تتمثل أولى خطوات الانتقال نحو يمن ما بعد النزاع والدولة اليمنية الحديثة في بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، كضمانة أساسية لعدم العودة إلى حالة النزاع، ولضمان الدخول في حوار جدي ومسؤول حول مختلف القضايا الخلافية. وتتمثل أهم خطوات بناء الثقة بين الأطراف ببعضها، وبين هذه الأطراف والمجتمع اليمني في:
1- تنفيذ وقف شامل لإطلاق النار يسهم في تقليل التوترات ويسمح ببدء الحوار.
2- إجراء عمليات تبادل المحتجزين لدى كافة الأطراف، والإفراج عن كافة المختفيين قسريًا، وسجناء الرأي، والسجناء السياسيين.
3- دفع مرتبات موظفي الخدمة المدنية والأمن والدفاع والمتعاقدين الذين يعملون في مرافق الدولة المتوقفة منذ سبتمبر 2016، وإيجاد معالجات فعّالة وفورية تضمن استمرار دفع المرتبات.
4- إعادة المُمتلكات المنهوبة على خلفية الصراع من قبل جميع الأطراف.
5- وضع معالجات مبدئية وفورية للإشكالات المرتبطة بانقسام النظام الاقتصادي وتوحيد سعر الصرف.
6- فتح الطرق والمنافذ المختلفة في كافة المناطق من قبل أطراف النزاع المختلفة.
7- رفع القيود المفروضة على المنافذ البرية والبحرية والجوية، وفتحها أمام الرحلات التجارية وغيرها من الرحلات.
8- العمل على تطهير وإزالة الألغام، وتسليم الخرائط التي توضح الأماكن الملوثة، والتوقف الكامل عن زراعتها.
9- العمل على تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، وفتح نوافذ للحوار بين الأطراف المتنازعة تمهيًدا لمعالجة الأسباب التي قد تسهم في استمرار النزاع أو استئنافه، أو تسهم في ممارسة الأفعال الانتقامية.
10- الالتزام بالشفافية في تنفيذ الاتفاقات المختلفة، ومناقشة الإشكالات المتعلقة بها، وتوفير المعلومات اللازمة حولها، وإشراك المجتمع المدني وتعزيز أدواره المختلفة، بما في ذلك أدواره الرقابية والتوعوية.
11- إلغاء كافة القرارات والقوانين التي صدرت في ظل حالة النزاع، لا سيما ما يتعلق منها بالحريات العامة والشخصية كحريات التعبير والحركة والتنقل، وإلغاء الأحكام الجائرة التي استندت إلى قرارات وإجراءات استثنائية وافتقرت إلى المحاكمة العادلة.
12- اعلان هدنة إعلامية بين كافة الأطراف، وتوجيه الإعلام نحو بث روح المقاربة والتآخي وتشجيع فرص السلام.
ثانياً: إعادة الإعمار والتعافي العاجل
يتطلب إعادة الإعمار في اليمن حزمة متكاملة من العمليات، والخطوات، والإجراءات التي تعزز استقرار البلاد وتساهم في تحسين الظروف المعيشية، من خلال استعادة وتحسين البنية التحتية والمرافق العامة، والتخفيف التدريجي لآثار الأضرار المادية التي تعرض لها المجتمع أثناء النزاع وصولًا إلى القضاء عليها بشكل كلي، ومن بين أمور أخرى، تتضمن هذه العملية:
1- إجراء تقييم شامل للأضرار في البنية التحتية والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية، عن طريق آليات شفافة من قبل متخصصين وخبراء في هذا المجال.
2- وضع وتطوير خطة وبرنامج شامل لإعادة الإعمار تشمل أولويات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، بناءً على نتائج تقييم الاحتياجات، والأولويات الملحة، والموارد المتاحة، ووضع خطط مرحلية لتنفيذ عمليات إعادة الإعمار المختلفة.
3- تحديد الجهات/ الدول المسؤولة عن إعادة الإعمار، ووضع الخطط لتوفير الموارد اللازمة لإعادة الإعمار، بما في ذلك البحث عن مصادر تمويل مختلفة لهذه العملية.
4- البدء في عملية إعادة بناء البنية التحتية الأساسية وفق الأولويات الملحة للمجتمع، كإعادة بناء وتأهيل الطرق والجسور والمرافق العامة مثل المياه والكهرباء والمدارس ومنشآت القطاع الصحي، وغير ذلك، مع استخدام تقنيات البناء المستدام.
5- استكمال العمل على إعادة الإعمار لمختلف القطاعات بناءً على الأولويات والتقييم الشامل الذي تم إعداده والخطة/ البرنامج الشامل والخطط المرحلية المزمنة، وتوفير آليات رقابة فعّالة، والالتزام بالشفافية في التواصل مع المجتمع حول مختلف جوانب عملية إعادة الإعمار.
ثالثًا: العدالة الانتقالية
العمل على معالجة إرث النزاع الحالي ودورات النزاع السابقة من الانتهاكات، من خلال الانخراط في عملية عدالة انتقالية حقيقية تفضي إلى انتقال سلس ومدروس إلى حالة السلام العادل والمستدام، وإزالة رواسب الاحتقان المجتمعي والتشظي التي أفرزها النزاع الحالي ودورات النزاع السابقة. وتشمل هذه العملية معالجة الملفات الممتدة، كملف الاختفاء القسري، وملفات الإقصاء السياسي، ومصادرة الحقوق، وغير ذلك. يمكن أن تبدأ عملية العدالة الانتقالية بالتزامن مع عمليات إعادة الإعمار والتعافي العاجل أو قبلها، ويجب أن تقوم عمليات العدالة الانتقالية في اليمن على عدد من المبادئ الأساسية:
1- إشراك المجتمع اليمني بفئاته المختلفة إشراكًا حقيقيًا وفعالًا في تصميم برامج العدالة الانتقالية ووضع خططها المختلفة، وتوفير الآليات الملائمة لتحقيق هذا الإشراك.
2- إعطاء الحق للأفراد، لا سيما الضحايا المباشرين للانتهاكات المختلفة التي ارتكبتها أطراف النزاع، بما في ذلك ضحايا القتل والتشوية، والاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب والقتل خارج إطار القانون، والإعدام بإجراءات موجزة، والتجنيد القسري، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، وغير ذلك من الانتهاكات التي ارتكبت خلال فترة النزاع، وذويهم في تحديد نوع الانتصاف الذي يحتاجون إليه من المنتهكين، سواء بالمساءلة الجنائية والملاحقات القضائية، أو الاعتراف والاعتذار، أو العفو، أو غير ذلك من التدابير، كونهم المعني الأول بهذا الشأن، وعدم السماح بإنجاز أي اتفاقات سابقة على العدالة الانتقالية أو في إطارها تتضمن أي مواد أو بنود من شأنها الحيلولة دون إعمال هذا الحق، كإقرار حصانات معينة وغير ذلك.
3- وضع الخطط والبرامج الملائمة لتنفيذ خيارات الأفراد من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان وذويهم، فيما يتعلق بالتعامل مع المنتهكين، ووضعهم في فترة ما بعد النزاع، ونوع الجزاءات أو الترتيبات التي تقع على عاتقهم.
4- الكشف عن الحقيقة كاملة حول الانتهاكات التي ارتكبت خلال النزاع، بما في ذلك القتل والتشوية، والاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب والقتل خارج إطار القانون، والإعدام بإجراءات موجزة، والتجنيد القسري، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، وغير ذلك من الانتهاكات التي ارتكبت خلال فترة النزاع، من خلال إنشاء آليات ملائمة لكشف الحقيقة تتناسب مع السياق اليمني وطبيعة الانتهاكات، ويشمل ذلك الكشف عن طبيعة الانتهاكات التي ارتكبتها الأطراف وضحاياها وملابساتها والمسؤولين عنها، والكشف عن مصير المختفيين قسريًا والمفقودين، والكشف عن أي مقابر جماعية، وغير ذلك.
5- معالجة ملف الاختفاء القسري الممتد، من خلال وضع خطط وآليات فعّالة لمعالجة هذا الملف، لا يقتصر على جرائم الاختفاء القسري التي ارتكبت في سياق النزاع الحالي، وانما يشمل كافة جرائم الاختفاء القسري على امتداد العقود السابقة.
6- تصميم برامج ملائمة لجبر الضرر المادي لضحايا مختلف الانتهاكات، بما في ذلك ضحايا القتل والتشوية، والاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب والقتل خارج إطار القانون، والإعدام بإجراءات موجزة، والتجنيد القسري، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، وغير ذلك من الانتهاكات التي ارتكبت خلال فترة النزاع، تتلاءم مع حجم الضرر وطبيعة الانتهاكات، وتتضمن الخطط العملية لآلية التنفيذ، وطرق الحصول على التمويل اللازم لها، والمدد الزمنية التي ستتم خلالها، تتضمن أنواع مختلفة من إجراءات جبر الضرر المادي كالتعويضات المالية، وإعادة الحقوق والممتلكات، وتصحيح أوضاع الفئات الهشة والضعيفة وغير ذلك.
7- وضع خطط وبرامج ملائمة لإجراءات جبر الضرر المعنوي بالتزامن مع إجراءات جبر الضرر المادي، تتضمن الاعتراف، والاعتذار، ورد الاعتبار، وتخليد الذكرى، وغير ذلك من التدابير.
8- تمكين النساء والشباب وذوي الإعاقة والأقليات المختلفة، وضمان مشاركتهم في تصميم وتنفيذ برامج العدالة الانتقالية المختلفة، والمشاركة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية المختلفة، على قدم المساواة مع غيرهم من فئات المجتمع.
9- توفير ضمانات كافية لعدم تكرار الانتهاكات ومسبباتها في المستقبل، بما في ذلك الإصلاح المؤسسي والتشريعي، على رأسها إصلاح مؤسسات قطاعي العدالة والأمن والقطاعات العسكرية، وإنشاء آليات رقابة فعالة، وتطوير آليات للإبلاغ عن الانتهاكات ورصدها وتوثيقها، وتعزيز المشاركة المجتمعية، وتفعيل أدوار مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، وتعزيز المصالحة الوطنية، وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وتعزيز احترام حقوق الإنسان وحرياته، وتعزيز الحكم الرشيد.
رابعًا: الإصلاح المؤسسي والتشريعي
يُعدّ الإصلاح المؤسسي والتشريعي ضرورة ملحّة يجب إعطاؤها مستوى عالٍ من الأهمية في يمن ما بعد النزاع، كونها تمثّل أحد تدابير عدم التكرار، وتسهم بشكل فعلي في تعزيز المساءلة والعدالة وحقوق الإنسان. كما تساعد في تحقيق قدرة أفراد المجتمع على الوصول إلى الخدمات الرئيسية، وتعزز الثقة بين أفراد المجتمع والسلطة، وبينهم وبين برامج العدالة الانتقالية وخطط التعافي. من بين المبادئ والمرتكزات التي يجب الانطلاق منها في عملية الإصلاح المؤسسي والتشريعي ما يلي:
1- إعادة صياغة الدستور بما يتوافق مع تطلعات الشعب اليمني، بناء على مخرجات مؤتمر الحوار الوطني بشكل عام، ومخرجات فريق بناء الدولة بشكل خاص.
2- إجراء إصلاحات هيكلية وعملياتية تدريجية وشاملة لمختلف المؤسسات، على رأسها قطاعي العدالة والأمن والمؤسسة العسكرية، وفق خطط مدروسة مبنية على تشخيص الإشكاليات والاختلالات ووضع المعالجات الملائمة لها.
3- تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال وضع آليات رقابة متنوعة على المؤسسات المختلفة وأعمالها، على رأس ذلك آليات الرقابة المدنية، وحرية الاعلام.
4- تدريب وتأهيل الموظفين في جهازي الأمن والعدالة، بما يكفل معرفتهم الكافية بالقوانين والتشريعات، ويسهم في تعزيز واحترام حقوق الإنسان وتحقيق العدالة.
5- العمل على عمليات الحوكمة الرشيدة، والإدارة الجيدة، ووضع سياسات مالية وإدارية واضحة وشفافة، وتعزيز آليات التحول الرقمي والتطور التكنولوجي، بما في ذلك حوكمة وتحديث قطاعي الأمن والعدالة، والذي من شأنه الحد من الانتهاكات والتجاوزات التي ترتكبها المؤسسات والأفراد، ويسهم في تعزيز قدرة المواطنين على الوصول إلى الخدمات الأساسية على قدم المساواة.
6- العمل على تعزيز آليات مكافحة الفساد المالي والإداري، ومكافحة الإثراء والكسب غير المشروع، وغسيل الأموال وغيرها من الأنشطة غير المشروعة.
7- مراجعة وتعديل القوانين القائمة لضمان توافقها مع المعايير الدولية المثلى لحقوق الإنسان.
8- وضع قوانين وتشريعات جديدة تسهم في دعم عمليات العدالة الانتقالية، والإصلاح المؤسسي، ومكافحة الفساد، وتعزيز حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، تتضمن تعاريف واضحة ومحددة لانتهاكات حقوق الإنسان، على رأسها الاختفاء القسري، وتجنيد الأطفال، والتعذيب، وغيرها من الانتهاكات الجسيمة، وتجريمها وحظرها في كافة الظروف والأحوال، ووضع ضمانات قانونية صارمة لمنع تكرارها ومحاسبة مرتكبيها.
9- سنّ تشريعات تجرّم التعذيب بكافة أشكاله وصوره، وفرض جزاءات رادعة على من يمارسه من موظفي إنفاذ القانون أو المحققين أو غيرهم، وتفعيل المواد القانونية المتعلقة بعدم الأخذ بأي أقوال أو اعترافات قسر عليها الأفراد بأي شكل من أشكال القسر الجسدي أو النفسي.
10- سنّ/تفعيل المواد القانونية التي تكفل الحريات العامة والشخصية بما في ذلك حرية التعبير، وحرية التنقل والحركة، والتجمع السلمي، والحق في الحصول على المعلومة، وحق المشاركة في الشؤون العامة وغيرها من الحقوق والحريات الأساسية.
11- العمل على الفصل بين المؤسسة العسكرية "الجيش"، كمؤسسة معنية بالدفاع الوطني، وقوات الأمن "الشرطة والأجهزة الأمنية" كأجهزة معنية بحفظ الأمن الداخلي ومكافحة الجريمة وصون حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية، بما في ذلك مراجعة هياكل المؤسسات العسكرية والأمنية لضمان وضوح المهام والمسؤوليات، ووضع تشريعات واضحة تحدد صلاحيات ووظائف كلٍّ من المؤسستين العسكرية والأمنية، والتدريب والتأهيل اللازم لأفراد المؤسستين وفق المهام المنوطة بهما، مع التركيز على أدوارهما في تعزيز وحماية حقوق الإنسان، للحيلولة دون تداخل وظائف المؤسستين، وبالتالي التورط في ارتكاب المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان، وإنشاء آليات رقابة مدنية فعّالة على المؤسستين العسكرية والأمنية لضمان المساءلة.
12- وضع الضمانات القانونية والإجرائية اللازمة لضمان استقلالية مؤسستي الجيش والأمن عن بعضهما، وتمايز سلطات ومسؤوليات كلٍّ منهما، وفي الوقت ذاته ضمان استقلال ومهنية وحياد هاتين المؤسستين عن أي تدخلات أو انتماءات سياسية أو قبلية أو دينية، وتوفير الموارد اللازمة لتطويرهما، وتوفير احتياجات ومتطلبات ذلك على أكمل وجه.
13- سنّ تشريعات تعزز الاستقلال التام للسلطة القضائية والمحاماة، مع وضع الضمانات الدستورية والقانونية والإجرائية الكافية لتمكين السلطة القضائية والمحامين من النهوض بمسئولياتهم وواجباتهم المحددة في الدستور على أكمل وجه، وعدم التدخل فيها، ووضع آليات رقابية فعّالة لضمان عدم التدخل في شؤون السلطة القضائية.
خامسًا: إصلاح النظام السياسي وتعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد
1- العمل على إصلاح النظام السياسي وتحقيق الحكم الرشيد بمعاييره المختلفة، ابتداءً من الشفافية والمساءلة والمشاركة وسيادة القانون، وانتهاءً بتعزيز واحترام حقوق الإنسان في مختلف عمليات وأهداف المؤسسات العامة والمجتمعية.
2- تعزيز واحترام الآليات الديمقراطية، على رأس ذلك التداول السلمي للسلطة، وتعزيز حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي، والحوار والمشاركة، والرقابة المجتمعية.
3- العمل على تعزيز الفصل بين السلطات وتوازنها، وضمان استقلال السلطة التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية، بما يكفل حق الأفراد في الوصول للعدالة.
4- العمل على تعزيز احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، بما في ذلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوق المدنية والسياسية، وتوفير الآليات الملائمة لإعمال هذه الحقوق بشكل فعلي.
5- العمل على تعزيز سيادة القانون والمواطنة المتساوية، وضمان تمكين النساء، وذوي الإعاقة، والفئات المهمشة والضعيفة الأخرى من الوصول لحقوقها بشكل كامل ومنصف، وعلى قدم المساواة مع الفئات الأخرى في المجتمع، وتعزيز آليات الحماية والصون لهذه الفئات.
سادسًا: التنمية الاقتصادية
1- العمل على تعزيز القطاعات الإنتاجية الرئيسية في اليمن، وفي مقدمتها قطاعات الزراعة والسياحة والصناعات الاستخراجية والتحويلية، وتحسين مناخ الاستثمار من خلال تعزيز الأمن، وتوفير التسهيلات الضرورية، وتحسين النظام المالي والمصرفي، وتحسين الخدمات العامة بالإضافة إلى تنمية الموارد البشرية وتعزيز الابتكار والإبداع، واستثمار الكفاءات، وغير ذلك.
2- وضع خطط وبرامج فعالة للحد من البطالة، والعمل على توفير فرص عمل وأجور عادلة، والعمل على تعزيز حق الأفراد في الحصول على التأمينات الصحية والاجتماعية وغيرها، وتطوير إجراءات الوظيفة العامة.
3- العمل على التحول نحو الطاقة النظيفة لتنمية الاعمال التجارية، وآليات الحفاظ على البيئة وصون الأرض.
4- تحسين إدارة الأوعية الإيرادية والضريبية والزكوية، وإدارة الأوقاف.
5- تعزيز آليات الرقابة والمساءلة ومكافحة الفساد بكافة أشكاله.
سابعًا: التعليم وبناء القدرات
العمل على تطوير وتحديث التعليم بمختلف مراحله، وتحسين جودته وتحييده عن كافة الموجهات الأيديولوجية والطائفية، والجهوية، والمناطقية، من خلال:
1- إصلاح النظام التعليمي، ويشمل ذلك -من بين أمور كثيرة- تحديث المناهج وتطويرها، بما يتلاءم مع متطلبات سوق العمل، وتعزيز مهارات التفكير النقدي، بالإضافة إلى تطوير وسائل وأساليب التدريس، وتطوير قدرات المعلمين، وضمان مجانية التعليم.
2- الاهتمام بالمعلمين تأهيلًا وتدريبًا، ومنحهم كافة الحقوق والضمانات التي تكفل لهم ولمن يعولون حياة كريمة.
3- تحسين البنية التحتية الخاصة بالتعليم وتطويرها، وتأمين المواد والمستلزمات التعليمية بشكل كافٍ ومستمر، وتخصيص موارد مالية كافية لقطاع التعليم، وتوسيع أنشطة مكافحة الأمية، وضمان سهولة الوصول إلى التعليم في المناطق المختلفة، بما في ذلك المناطق الريفية والنائية.
4- دعم التعليم العالي والبحث العلمي والتعليم والتدريب المهني، وتحسين جودة التعليم في الجامعات، وتدريب الكوادر التعليمية على الإدارة الفعالة والتخطيط الاستراتيجي، ومواكبة التطور العالمي في مجال التعليم بمختلف مراحله، ووضع الخطط والبرامج اللازمة لذلك.
5- التقييم والمراجعة المستمرة للبرامج والكوادر والمنشآت التعليمية، وتطويرها وتحسينها بشكل مستمر.
ثامنًا: تعزيز حرية واستقلال الإعلام
1- العمل على تحرير الإعلام من ملكية وهيمنة الحكومة، وتوفير آليات مستقلة تعزز ضمانات احترام حرية الصحافة والعمل الإعلامي ككل، وتمكين الإعلام من القيام بأدواره الرقابية، وتعزيز الهوية الوطنية، واحترام حرية الضمير والفكر والمعتقد، والحماية من التشهير والتحريض والتخوين.
تاسعًا: تعزيز أدوار مؤسسات المجتمع المدني
1- العمل على تعزيز حضور المجتمع المدني وإبراز دوره، واحترام حريته واستقلاله، وتوفير الضمانات الكافية لذلك، وسن القوانين والتشريعات لتنظيم عمل مؤسسات المجتمع المدني وتحديد حقوقها وواجباتها وأدوارها المختلفة، وتوفير الموارد والتسهيلات اللازمة للنهوض بتلك الأدوار، وتعزيز الثقة بين المجتمع المدني والدولة من خلال الشفافية والشراكة الفعالة، وإعمال الحق في الحصول على المعلومات، واستعادة حرية العمل النقابي في المؤسسات العامة والخاصة.
2- تعزيز الوعي بحقوق وحريات الإنسان الأساسية في أوساط المجتمع، وآليات الاسهام في تعزيزها، وسبل المطالبة بها وتحقيقها.
عاشرًا: بناء الثقة واستعادة التماسك الاجتماعي
1- العمل على ترشيد الخطاب الديني، وتحييد مرافق العبادة ومساحات الإرشاد الديني المختلفة.
2- العمل على تعزيز الهوية الوطنية لكافة اليمنيات واليمنيين.
3- العمل من أجل القضاء على كافة أشكال التمييز العنصري، ونبذ العنف وخطاب الكراهية، وحظر اللجوء إلى استخدامه لتحقيق أهداف سياسية أو مناطقية أو طائفية، أو للإضرار بالغير، تحت أي مبرر.
4- العمل على تعزيز المشاركة والمسؤولية الاجتماعية، وتعزيز قيم الوحدة والتعايش والتسامح.
5- إدخال مقررات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ضمن المناهج الدراسية للمرحلة الثانوية والجامعية.
حادي عشر: تحقيق أهداف التنمية المستدامة
العمل على تحقيق أهداف التنمية المستدامة الـ 17 في مختلف العمليات والجهود والخطط والبرامج التي يتم العمل عليها في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإدارية في دولة ما بعد النزاع في اليمن.