لم تترك لي الحرب مساحة لأرثي والدي كما يليق به، حتى أني لم أكتب له رسالة كهذه، لكني أعلم أنه سيكون فخوراً بكل جهد أقوم به لمواجهة هذه الحرب ومواجهة جرائمها وانتهاكاتها ضد المدنيين.
تم النشر من قبل بموقع: The nation
ملاحظة كاتب الإفتتاحية: رضية المتوكل هي الفائزة بجائزة آنا بوليتكوفسكايا للعام 2020 والتي تمنحها منظمة حقوق الإنسان للوصول لجميع النساء في الحرب (RAW in WAR) للمدافعات عن حقوق الإنسان العاملات في زمن الحروب والصراعات. وهذه هي رسالتها إلى آنا بوليتكوفسكايا، والتي تم نشرها في اليوم الذي حصلت فيه المتوكل على جائزة تحمل اسم بوليتكوفسكايا تكريمًا لها في حفل “ترفض أن تصمت“، وهو جزء من فعاليات مهرجان نساء العالم للعام 2021 في المملكة المتحدة.
أن أحصل على جائزة تحمل اسمك فهذا يعني لي الكثير، ليس فقط لأنك وقفت في وجه حرب الشيشان وتسلحتي بفضيلة البحث عن الحقيقة كطريقة لمقاومة سوءها، ولكن أيضاً لأن والدي رحل كما رحلتي. لقد تم اغتياله على أرض وطنه، اليمن، في نوفمبر 2014 لأنه كان صوت للسلام وسط اطراف متعددة كانت قد قررت أن تخوض حرباً شرسة استمرت منذ ذلك العام وحتى هذه اللحظة. يبدو أنه كان بالنسبة لصناع الحروب حجرة عثرة لا بد من إزالتها، تماماً كما كنت أنتِ.
لم تترك لي الحرب مساحة لأرثي والدي كما يليق به، حتى أني لم أكتب له رسالة كهذه، لكني أعلم أنه سيكون فخوراً بكل جهد أقوم به لمواجهة هذه الحرب ومواجهة جرائمها وانتهاكاتها ضد المدنيين.
لا أعرف يا آنا ما الذي كانت تحمله ذاكرتك عن اليمن، فقد كان يطلق عليها عبر التاريخ اسم العربية السعيدة (اليمن السعيد). ولكن الأمم المتحدة اليوم تطلق عليها اسم الأزمة الإنسانية الأسوأ في العالم. لا تعاني اليمن من كارثة طبيعية ولكنها أزمة من صنع الإنسان. أشعر الآن وكأن هذه الأزمة أزلية بالرغم من أن عمر الحرب ما يقارب الست سنوات، ورغم أننا قبل هذه السنوات الست كنا بلد يعاني لكنه أيضاً يعيش. لقد كنا نناقش دستوراً جديداً وعقداً اجتماعياً جديداً، ونطالب بمزيد من الحريات وبانتخابات حره ونزيهة. واليوم أصبحت اليمن من طرفها لطرفها بلد تتحكم به الجماعات المسلحة وتحاصره دول عربية تدعمها دول غربية، وتُرتكب في حقه اسوأ الانتهاكات، احدها التجويع الذي تستخدمه أطراف النزاع كوسيلة من وسائل الحرب.
ومع هذا، لم يحدث شيئاً فجأة، للحرب بدايات عدة، لكن هناك نقطتي تحول كارثيتين. أولاهما كانت في سبتمبر 2014، حين سيطرت جماعة مسلحة اسمها (الحوثيين) على العاصمة صنعاء وحاصرت الحكومة وتمددت نحو محافظات أخرى، وثانيهما كانت في مارس 2015 حين حدث التدخل العسكري لعدة دول بقيادة السعودية والإمارات وبطلب من الحكومة اليمنية. لا أعرف كيف أشرح لك شعوري في هذين التاريخين، أنا ابنة صنعاء التي تعشقها وتعشق الروح المدنية التي اكتسبتها بنضال اليمنيين على مر السنوات. ففي يوم 24 سبتمبر 2014 شعرت بالفزع حين خرجت للشارع ورأيت طفلاً مسلحاً يقف مكان رجل المرور، ولم تكن تلك سوى البداية. وفي 25 مارس 2015 دوت الإنفجارات في سماء صنعاء، وفي اليوم التالي وقفت مذهولة على أنقاض تجمع سكني كانت تقطنه ثمان أسر، حيث قُتل ما لا يقل عن سبعة وعشرين مدنياً بينهم خمسة عشر طفلاً في غارة جوية لطيران التحالف العربي، ولم تكن تلك أيضاً سوى البداية.
قبل أن أخبرك أكثر عن الحرب وانتهاكاتها وأطرافها دعيني عزيزتي آنا أعود بك قليلاً إلى الوراء، وأخترق كل هذا السواد بقليل من الضوء.
التقيت عبد الرشيد الفقيه في العام الذي رحلتي فيه انتِ عزيزتي آنا. إنه الشخص الذي تشاركت معه في البداية شغف العمل الحقوقي ومن ثم تشاركنا الحياة كلها. في ذلك العام ولدت فكرة منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، كانت لا تزال حلم في مخيلة ناشطين لا يملكان شيئاً سوى إيمانهما بالناس وبحقهم في الحصول على حياة كريمة. بدأنا خطوات تأسيس مواطنة عام 2007، وكنا حينها شخصين فقط، واليوم نحن فريق كامل من عشرات الرجال والنساء ويغطي بعمله كل أرجاء اليمن.
نحن مؤمنون مثلك تماماً بأهمية الحقيقة في مواجهة الحرب، لهذا فإن أحد أهم ما نقوم به في مواطنة هو رصد وتوثيق انتهاكات جميع أطراف النزاع في اليمن. نحن نعتبرأن المعلومة قوة، وأنها الأساس الأول لأي تدخل يأتي بعدها. بعد سنوات من العمل نعتبر أنفسنا مسؤولين عن بناء ذاكرة حقوقية، ليس فقط من أجل المناصرة وتخفيف الضرر على المدنيين في الوقت الحالي، ولكن أيضاً من أجل تحقيق المساءلة في المستقبل.
تعمل مواطنة أيضاً في مجال المناصرة على المستوى الدولي، لفضح انتهاكات الأطراف المتحاربة في اليمن. سوف أخبرك الحقيقة يا آنا، لقد ظننا في مرحلة ما أن قول الحقيقة ونشرها سيكون كافياً للدفع باتجاه حماية المدنيين ووقف الحرب، لكننا أكتشفنا أن ذلك لا يكفي، لأن هناك دول تعلم حقيقة ماذا يجري في اليمن. لقد أدركنا مع الوقت أن حرب اليمن ليست منسية بقدر ماهي مُتجاهلة. دول مثل أمريكا، وبريطانيا ، وفرنسا تستطيع أن تلعب دوراً فاعلاً في وقف الحرب وحماية المدنيين لكنها لا تفعل. هي بدلاً من ذلك تبيع السلاح للسعودية والإمارات وتقدم لهما الدعم وتحاول إضعاف إي مسار للمساءلة. وفي الطرف الآخر هناك إيران، التي تدعم الحوثيين ولا تقل سوءاً، ولكنها لا تدعي الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن ثم بدأنا الاهتمام المساءلة. المساءلة هي الكلمة المفقودة في اليمن، وأعني بكلمة مساءلة المساءلة الجنائية. واليوم تتصرف أطراف النزاع بثقة في قدرتها على الإفلات من العقاب. ونحن في الوقت الحالي نبحث ما هي الفرص المتاحة للمساءلة على المستوى الدولي. وبالرغم من محدودية هذه الفرص، إلا أننا نعمل على الموجود منها ونحاول الدفع باتجاه إيجاد منافذ نحو تحقيق العدالة.
تقوم مواطنة أيضاً عبر فريق من المحاميين والمحاميات في مختلف المحافظات تحت سلطات مختلفة بالمتابعة اليومية لحالات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب، وقد نجح فريقنا في المساهمة في الإفراج عن العديد من المعتقلين.
لا بد أنك الآن تتسائلين كيف نستطيع أن نحمي أنفسنا، وماهي المخاطر التي نتعرض لها. في الحقيقة لا أحد آمن في اليمن، أو كما أقول دائماً، نحن جميعاً آمنون بالصدفة في هذا البلد، ومن المحتمل أن يحدث أي شيء لأي شخص وفي أي وقت. ولا شك أن المخاطر التي نواجهها تزيد لكوننا منظمة مستقلة تعمل ضد انتهاكات جميع الأطراف المتحاربة في بلد يعاني من انهيار كامل للدولة، وتسيطر عليه جماعات مسلحة ويتعرض لحصار وحملة عسكرية من عدة دول أحدها جارته السعودية.
نحن في الحقيقة لا نملك حماية غيراستقلاليتنا، ومهنيتنا، وسمعتنا التي تجاوزت الحدود المحلية إلى الدولية. لكن بالطبع يبقى أن لا أحد منا محمي بالكامل، وقد تعرض عدد من فريق مواطنة للاعتقالات والمضايقات والتهديدات بما فيهم أنا وعبد الرشيد، كما تتعرض مواطنة لحملات تشويه وتحريض مكثفة. لكن الأهم أننا مازلنا قادرين على تأدية دورنا الحقوقي تجاه ضحايا الحرب.
هل أعود بك إلى الحرب؟ وأنتِ تعلمين تماماً ماذا تعني الحرب، ولا بد أن جميع الحروب تتشابه. أهم ما يجب أن تعرفيه عن الحرب اليمن هو أنه لا يوجد فيها أبطال، فقط مجرمون وضحايا، وأن لا أحد من أطراف الحرب بريئ من إرتكاب الانتهاكات ضد المدنيين، فكلهم متساوون في عدم إحترامهم للناس والسلام وحقوق الإنسان.
يتعرض اليمنيون للانتهاكات المباشرة من جميع أطراف الحرب، كالقصف الجوي والأرضي، والألغام، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، وتجنيد الأطفال، والهجوم على المدارس والمستشفيات، والحصار، والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب، والتضييق على المساحات المدنية المختلفة، وأكثرمن ذلك. وبالإضافة إلى كل الانتهاكات المباشرة التي تطال المدنيين في اليمن، هناك أيضاً الوضع الاقتصادي الذي كسر ظهور اليمنيين. فأغلب اليمنيين العاملين في القطاع العام لم يستلموا رواتبهم منذ عام 2016، ولا توجد كهرباء في أغلب المناطق وهناك انهيار كامل للدولة يجعل اليمني وحيداً في مواجهة مأساة أكبر منه. والطامة الكبرى أن أطراف الحرب كما ذكرت سابقاً يستخدمون التجويع كسلاح حرب.
لن أنتهي بك عند هذه الصورة القاتمة عزيزتي آنا، فهناك حقيقة أخرى يجب أن تعرفيها، وهي أن الإنسان اليمني يحب الحياة. فمازال أغلب اليمنيين من الناس العاديين يحتفظون بجمالهم الداخلي، ويعينون بعضهم البعض على مصاعب الحياة، وكثيرون منهم يرفضون الحرب وانتهاكات اطرافها ويعملون كلاً من موقعه على إحداث أثر إيجابي. وهناك نساء كثيرات على مستوى اليمن بأكملها يتركن بصمات مفعمة بالجمال والحب والقوة في قلب هذا الوطن المنهك، ويصدعن بأصواتهن ضد الحرب. وبالرغم من كل التعقيدات، يبقى السلام في اليمن ممكناً جداً.
لن تضيع جهود كل من أراد أن يصنع فرقاً لصالح الناس، كما لن تضيع جهودك يا آنا. فلتنم روحك بسلام.