رغماً عن حملات الآلة الدعائيّة للحرب
.
على الرغم من الآلة الدعائيّة للحرب، واستشراس حملتها ضدَّ كلِّ ما له صلة بالعمل الحقوقيّ المستقل، ندرك جيدًا -بعدَ عشر سنوات من العمل الدؤوب والشاق- أنّنا قدّمنا نموذجًا استثنائيًّا للعمل الحقوقي المستقلّ، يجعل الجواب سهلًا، عن السؤال المتكرِّر والمطروق على مسامعنا: ما الذي يميّز مواطنة عن غيرها، لتحظى بكل ذلك الاعتراف والاحترام الدولي والمحلي الواسع؟
في هذه المدونة، نحاول -ما استطعنا- وضعَ خطوطٍ عريضة، أمام المدنيّات والمدنيّين اليمنيّين -وهم محلّ اهتمامنا وعملنا- عن النهج الذي جعلنا متمايزين على نحوٍ جليّ، وجَعل من نتائج جهودنا شيئًا ذا قيمة، داخل اليمن وخارجها، في الطريق إلى إنصاف ضحايا حربٍ تناهز السنة الثامنة من عمرها، وجبر ضررهم، ومساءلة المنتهكين، وتحقيق السلام.
بدأت مواطنة لحقوق الإنسان محاولات تسجيلها كمنظمة حقوقيّة، مبكرًا، وبالتحديد مطلع العام 2007، لكن النظام -آنذاك- رفضَ تسجِيلها بسبب مواقفها الحقوقيّة ضدّ الانتهاكات على خلفية حرب صعدة، وعلى خلفية الحراك الجنوبي السلمي، وكذلك الانتهاكات ضدّ الحريات الصحفية والحريات العامة، لكنها -معَ ذلك- لم تتوقف، وحرصت على تطوير ذاتها في الميدان الحقوقيّ، والتنسيق مع المنظمات الدولية المختلفة، والاستفادة من خبراتها المتعدّدة.
بعد سنوات من الحظر، حصلت مواطنة على ترخيص العمل في 23 أبريل/ نيسان 2013. ومنذ ذلك الحين، عملت على بناءِ هيكلٍ مؤسسيّ متماسِك، لتكون قادرة على تحقيق رؤيتها وأهدافها وخطّتها الاستراتيجية بحزمة متوازية ومتزامنة ومتسقة من العمليات والأنشطة، من خلال تصميم آليات عمل كفُؤة ومؤثِّرة تتفاعل مع مختلف الآليات المحلية والإقليمية والدولية، مهما بلغت تعقيدات الوضع وتحدياته ومخاطره.
وفي عام 2014، دخلت اليمن حالةَ الحرب الشاملة، سبق ذلك رغبةٌ متأجّجة لأطراف النزاع، في إسكات أصوات كل ما له صلة بالعمل المدنيّ، فضلًا عن العمل الإنسانيّ والحقوقيّ؛ ما جعل المدنيّات والمدنيّين عرضةً لشتى أنواع الانتهاكات، وأتى على حقوقهم/ حقوقهن الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
لكن؛ على الرغم من النيران المشتعلة في كلِّ مكان، كثّفت مواطنة لحقوق الإنسان من عملها مع الناس، في محاولة منها للوصول إلى الضحايا في مختلف المناطق لرفع أصواتهم وتسليط الضوء على معاناتهم، ووسّعت من نطاق عملها الميدانيّ لتشمل كلّ المحافظات اليمنيّة التي طالتها انتهاكاتُ أطراف الحرب، ورفعت من معايير العمل وآلياته.
لم تستسلم مواطنة لحقوق الإنسان، لمنطق الأمر الواقع، للحدود والحواجز المصطنعة التي قسّم بها المتحاربون الجغرافيا اليمنية، واستطاعت بحنكة ودَأْب أن تتخطّاها لتصل إلى كلّ مساحة طالتها انتهاكات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، كما أتت بمهنيّتها وشفافية عملها على البروباجندا التي حاولت أن تصوِّرها منظمةً حقوقيّة مناطقيّة وفئويّة.
منذ البداية، سلكت مواطنة طريقًا مناقِضًا لكلِّ ما هو فاسد ومبتذل وفاقدٌ للكفاءة والتأثيرِ في عمل بعض منظمات المجتمع المدني. لقد مارست عملَها في الوقت الذي كان يُنظَرُ فيه بِرِيبَةٍ لكلِّ ما يمتّ للعمل الإنسانيّ والحقوقيّ بصلة، ذلك أنّ الأخير كان بعضٌ منه غارقًا في الشكليات ومشاريع وأنشطة منعدمة الجدوى والأثر، كما تحوّلت بعض النماذج إلى مجرد وسائل للإثراء غير المشروع، وهو ما حمّل مواطنة مسؤوليةً إضافية لرفع حساسيتها تجاه كلِّ ما له صلة بإدارة مواردها بنزاهة وشفافية ومسؤولية، وَفقَ أفضل المعايير، إذ قامت مواطنة ، إلى جانب كفاحها لإنجاز عملٍ حقوقيّ متمثِّلٍ لأعلى درجات الدقة والموضوعية، بإخضاع عملياتها المالية للتدقيق، ووضعت كلَّ إجراءات ومستندات ووثائق عملياتها قيدَ التدقيق والفحص بنظر جهات دولية مستقِلّة ومتخصِّصة، ما كرّسها لدى الشركاء والمانحين كجهة جديرة بالثقة.
الشيء الآخر الذي يجعل من عمل مواطنة استثنائيًّا، هو أنّه بالرغم من أنّ الهامش المدني قبل العام 2014، كان يشهد ازدهارًا كميًّا، فإنّنا أتينا في ظلّ استهدافِ ذلك الهامش بالقمع والتضييق من قبل أطراف الحرب من جهة، وانسحابِ عددٍ من المؤسسات والعاملات والعاملين إيثارًا للسلامة من جهة ثانية، والعملِ بمعايير متدنّية تفتقر للدقّة والموضوعيّة، وتصديرِ معلومات مُزيفة لتعزيز سرديات أطراف الحرب من جهة ثالثة.
لذا كان منوطًا بنا تدريبُ فِرَقِ بحثٍ ميدانيّ مستقلة، لتمكينهم من العمل على مسألة جمع المعلومات والتدقيق فيها، والتأكّد من صحّتها وَفق أعلى المعايير الدولية. وبالفعل، استطعنا نتيجةً لجهود فريقنا الميدانيّ والمركزيّ، تقديمَ أكثر التقارير والدراسات والبيانات والمدوّنات والرسائل والإحاطات الحقوقيّة مصداقيّةً وشمولًا، وبنَينا مدونة سلوك تحكم دورة العمل بمختلف مساراته، ابتداءً من تعامل الموظفين فيما بينهم، ومن ثَمّ التعامل مع مصادرنا من الضحايا والشهود بما يجنِّبهم الاستغلال أو الخطر أو الاستخدام الضارّ والانتهازيّ للمعلومات؛ لذلك كانت الموافقة المستنيرة لإدلاء الضحايا وأقاربهم وشهود العيان بشهاداتهم، وقبل ذلك المصلحة الفضلى لهم، مقدَّمةً على كلِّ اعتبار.
تفخر مواطنة بوقوفها إلى جانب أُسر اليمنيّين واليمنيّات، في كفاحها المرير لاستعادة ذويها المحتجزين في غياهب أطراف الحرب. وحتى هذه اللحظة، لا يزال عشرات المحامِين والمحاميات، الذين يحملون شارة المنظمة، يجوبون في صباحات القرى والمدن، أماكنَ التوقيف والمحاكم والنيابات ومكاتب المسؤولين، وكلّ ذي صلة، أملًا منهم في الإفراج عن محتجز، أو إيقاف الممارسات المهينة واللاإنسانية التي يتم انتهاجها بحقِّ المدنيّين، أو الكشف عن مصير إنسان. لقد قُدِّرَ لنا خلال السنوات الماضية، المساهمة في الإفراج عن مئات المحتجزين، وتقديم الدعم والمساندة القانونيّة لآخرين.
هذا النجاح والتميّز في عملنا، دائمًا ما تدفع ثمنه مواطنة، على هيئة حملات تحريض ممنهجة، ودعوات عنف وكراهية، عرّضت في كثير من الأوقات، طاقمَ عَمَلِنا للاحتجاز أو أعاقَت عملهم.
وعادةً ما تُبنَى حملات الكراهية، على معلومات مُضَلِّلة وجملة من التعميمات، تحاول أن تجتزِئ الحقيقة أو تُقدِّمها ملويةَ العنق، لتقول إنّ عملنا انتقائيٌّ أو موجّه، غير أنّنا في مواطنة لحقوق الإنسان لا نأبه لكلِّ ذلك، طالما كان جهدنا محكومًا بقواعد سلوك صارمة، لا تميّز بين المدنيّين في الانتهاكات التي تطالهم، ولا تفرز المُنتهكين إلى أصدقاء وأعداء بالمنطق المحتال للسياسة، وإنّما كلُّ فعل اقترف بالتجاوز للقانون الدوليّ والقانون الدوليّ لحقوق الإنسان، بالضرورة هو محلّ اهتمامنا، حتى يُنصف الضحايا، جميع الضحايا، وتبدأ مرحلة مساءلة المنتهِكين، جميع المنتهكين، عاقبة ما اقترفت أيديهم، كشرطٍ أساسيّ لسلامٍ شامل ومستدام.
نقول هذا؛ كتأكيدٍ على أنّ مواطنة وطاقمها سيبقون على النهج القويم الذي ارتضوه، وأنّها لن ترضخ للآلة الدعائية للحرب؛ لأنّ يقينها راسخٌ ومتجذِّر، بأنّه لا توجد حربٌ نظيفة، فكلُّ فعلٍ يُفضي إلى القتل أو التشويه أو تشريد العامة أو تجويعهم، أو انتهاك أيِّ حقٍّ من الحقوق، بالضرورة هو فعل قذر، وجدير بالإدانة، وأكثر من ذلك المحاسبة. لدى مواطنة يقينٌ أيضًا بأنّ المدنيّين ومصالحهم، هي الغنيمة الكبرى لهذه الحرب، ولذا حُقّ للأطراف التي تقتسم القتل والخراب أن تضعنا في فوهة بنادقهم، وهي ترى أنّ هناك من لا يزال يتحدّث -متجرِّدًا- عن العُزَّل، ويدافع عنهم.
عشر سنوات من عمر مواطنة المؤسَّسيّ، هي أكثر من ذلك لطاقم عملٍ لا يكاد يتوقّف، سهرًا وجهدًا ومثابرةً وصدمات وقلقًا وهمًّا، وتهديدات وانتهاكات، لكن الفرح حليفهم عند فرحة كلِّ يمنيّ بتوقّف الانتهاكات والاحتراب في النهاية.
لم نضع شعارنا “مجتمع يتمتّع فيه كلُّ إنسانٍ بالحقوق والعدالة” ترفًا، إذ انبثق أخيرًا، عندما عدنا إلى أنفسنا في هذه السنوات العجاف، لنسأل: ما الذي فعلناه، وما الذي نصبو إليه؟
لا نقول هنا أنّنا بشرٌ خارقون، أو أنّنا استطعنا أن ننجو بأنفسنا مع ذلك. لا، لكن يبقى العَزاءُ والدافِعُ للاستمرار، هو أنّنا في حالة تماسٍّ دائمٍ ويومِيّ مع أشلاء وجراح وأحزان وهموم المدنيّين والمدنيّات اليمنيّين. نفتح أعيُنَنا كلَّ صباحٍ على لَطْخَة دم مراق أو صرخةِ أمٍّ ثكلى، منزل مهدَّم على رؤوس ساكنيه من الأطفال، مزق ملابس أو إنسان بلا أطراف. نبكي، نصاب بالتروما، نتعثر، ثم ننهض. لا مجدَ أكبر من أن تُسمِّيَ نفسَك باحثًا عن الحياة، في ظلِّ التباري بالأسلحة التي تقتل أكثر.
لم ننظر لضحايا الحرب على أنّهم أرقام في بورصة المزايدة الدولية، وإنّما حشدٌ هائل من الأحاسيس والمشاعر. وبينما اختُزِل اليمن في السنوات الأخيرة، في سجلٍّ من المؤشرات والإحصائيات، لدينا سجلٌّ يوميّ حافل بما عاناه معظمُ اليمنيّات واليمنيّين. ذاكرة مكثّفة، إن لم يكن من نتاجها رمي كلِّ هؤلاء المتشدقين بالوطنية خلف القضبان، فستُلقِّن الأجيالَ القادمة درسًا لن ينسوه عن المعنى الحرفيّ لكلمة حرب. إنّه دليلٌ كافٍ على صيحة رئيسة مواطنة في أكثر من محفل دولي: “لا أيديَ نظيفة في حرب اليمن”.
ومع كلِّ التحديات والمخاطر الماثلة أمامنا، ومن ذلك الحسابات الدولية المتضاربة وصراع النفوذ والقوى، وصعود الشعبويات إلى السلطة، وتمكين الجماعات المسلّحة من الحكم، والتعامل بازدواجية مع ملفات حقوق الإنسان في العالم، والمحاولات الحثيثة للدول الراعية للمُنتهكين في محاولةٍ منها لإنهاء دورنا، وتملُّص المجتمع الدولي من مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، وليس أخيرًا التسخيف من قيمة هذه المهمة النبيلة والشاقة في آن- إلّا أنّنا ندين بوجودنا الاستثنائيّ، لعشرات -إن لم نقل مئات- اليمنيّين واليمنيات، من العاملات والعاملين، سواء الذين لا يزالون إلى اليوم يمثّلون الشريان الحيويّ لوجودنا، أو أولئك الذين عَمِلنا إلى جانبهم في أوقات أخرى. ومثلما كان تركيزنا على تمكين النساء بطريقة مُنصِفة وعادِلة، كانت بيئة عملنا، نسيجًا حيويًّا، من العمل اللامنقطع وقوة الإرادة والتفاني والابتكار.
ومثلما كان العمل في المجال الحقوقيّ، فرصةً لكثيرٍ من الشباب والشابات لرؤية ذواتهم بعيدًا عن الاصطفاف وراء زعماء الحروب، كانت مواطنة لحقوق الإنسان، واحدةً من الوجهات الأكثر جذبًا لرفع أصوات الضحايا من المدنيّات والمدنيّين كمُدخل أساسيّ من مُدخلات مساعي إيقاف الحرب ودعم جهود السلام.
ويومًا إثر يوم يتأكّد لهؤلاء، صوابية خوضهم لغمار هذه التجربة. إذ إنّه وعلى المدى البعيد المنظور، سينظر هؤلاء الشباب والشابات لأنفسهم بإعزاز، من أنّه في الأوقات التي كان فيها داعي الخراب مسموعًا، أنصتوا، على النقيض من ذلك، لهمس السلام.
مواطنة، ليست شخصًا واحدًا أو اثنين أو حتى عشرة، حسبَ ما يريدون تعريفها. مواطنة هي المحصلة النهائية لعلاقات إنسانية غاية في الرُّقي والتظافُر والسَّعة، عابرة للمناطقية والجهوية والمذهبية وكلّ الانتماءات ما قبل الوطنية الضيقة. كيانٌ، على تواضُع موارده وشموخ مقاصده، مبنيٌّ بعناية الإنسان اليمنيّ بمدرّجاته الزراعيّة وتوقه المتأجّج الشديد للحظات الطمأنينة والسلام.
نحن أيضًا؛ أي في مواطنة، محصلة طبيعية للانحيازات النظيفة وغير المشبوهة، وكيانٌ لم نسمح بتدنيسه بالمال السياسي أو الدعم المشروط، لأنّ هذين الأخيرين مناقضان لقيم العدالة والسلام.
ومن المآخذ التي نأينا بأنفسنا عنها، لنؤكّد على إخلاصنا لقيمنا وصوابية نتائج عملنا، ترفض مواطنة تلقّي الدعم من الكيانات المحلية والدولية المنتهكة لحقوق الإنسان، أيًّا كانت هذه الدول أو الجهات، وحجم التمويل الذي ستُقدِّمه. لذلك شكّل اختيارنا لشركائنا المحليّين والدوليّين، ذلك الدرع الأخلاقي السميك، الذي لم تستطع معه أن تفت في عضدنا شيئًا كلُّ دعاوي الأطراف ودعايتها السوداء واتهاماتها المتعددة. فشركاؤنا أيضًا، وبثقتهم بعملنا، وحرصهم على مشاطرتنا الألم، جزءٌ من هذا النجاح الاستثنائيّ المشهود.