تأشيرة إلى الموت

لم تكن أسرار تعلم أن أول تأشيرة خروج أخذتها من مكتب الجوازات بمنفذ الوديعة على الحدود في طريقها إلى اليمن، ستكون الأخيرة، وأن بناتها الثلاث سيقطعن نفس الطريق في العودة ولكن لوحدهن هذه المرة، مكلومات باليتم وقسوة فقدان الأم.

December 29, 2020

عندما تكون العودة للوطن طريقاَ نحو القبر

29 ديسمبر/ كانون الأول 2020

ناصر جميل

لم تكن تعلم أسرار ( 22 سنة)  أن حلمها في العودة إلى الوطن، سيقودها إلى حتفها، على يد جماعات مسلحة تتصارع للسيطرة على محافظة شبوة النفطية (جنوب شرق اليمن).

تنحدر أسرار من أسرة سكنت محافظة الحديدة (غرب اليمن)، لكن -بطبيعة الحال- لديها أقارب في محافظة شبوة. سافر والداها إلى السعودية قبل ولادتها بحثاً عن حياة أفضل، فاستقرا هناك.

ولدت أسرار وترعرت في السعودية وتزوجت هناك من ابن عمها ،و أنجبت بناتها الثلاث. وحين أصبح عمر ابنتها الصغرى شهرين ، قررت في 15 أغسطس/آب 2019 السفر برفقة أخيها وبناتها لأول مرة إلى اليمن، وتحديداً إلى محافظة شبوة. أرادت أسرار أن تتعرف على جديها الذين لم تتح لها الغربة فرصة لقاءهما من قبل.

لم تكن أسرار تعلم أن  أول تأشيرة خروج أخذتها من مكتب الجوازات بمنفذ الوديعة على الحدود في طريقها إلى اليمن، ستكون الأخيرة، وأن بناتها الثلاث سيقطعن نفس الطريق في العودة ولكن لوحدهن هذه المرة، مكلومات باليتم وقسوة فقدان الأم.

لقاء ووداع

يحكي جد أسرار؛ أحمد عمر (52 سنة) قصة حفيدته، فيقول: إلتقيتها لأول مرة في حياتي وحضنتها فأطلت إحتضانها، ولم أكن أدرِي وقتها أن هذا الحضن منقسم بين لقاء ووداع”.

ويواصل متحدثاً عنها بشغف وحسرة: منذ قدومها وخلال الفترة القصيرة التي بقيت فيها معنا، كنا نقضي كل ليلة بالسهر. لم نكن نريد للصباح أن يأتي والسبب كان أسرار. شابة مرحة، بشوشة، تسبق حروفها ضحكة، ويرافق كلامها إبتسامة.

مطر من الرصاص

عند الساعة الـ04:00 مساء يوم الجمعة 23 أغسطس/آب 2019 إندلعت اشتباكات عنيفة وسط مدينة عتق بالقرب من قرية المهمشين – حيث يسكن جدي أسرار- بين قوات النخبة الشبوانية المدعومة إماراتياً وأخرى تابعة لحكومة الرئيس هادي المعترف بها دولياً، فأدت طلقة نارية من سلاح متوسط بحياة أسرار.

يتحدث حمو أسرار، علي إسماعيل (48 سنة)، والذي يسكن جوار المنزل الذي كانت زوجة ابنه تنزل ضيفة فيه: كانت الاشتباكات تدور بالقرب من منزلنا. كان الرصاص ينهمر كزخات المطر، وكنا نحتمي منه خلف جدران وأسقف بالكاد تحمينا من قطرات السماء.

كانت أسرار تقف على عتبة باب منزل جدها الهش المصنوع من الصفيح وأعواد الأخشاب وبقايا البناء، عندما جاءتها الرصاصة من جهة الشمال وأصابتها في مقدمة رأسها، وخرجت من المؤخرة بعد أن هشمّت جزء كبير من رأسها.. لم تكن هناك جُدران لتحميها من طلقات الرصاص.

يشرح علي إسماعيل اللحظات الأولى لمقتل زوجة ابنه، بالقول: جاء شقيق أسرار يخبرني، فحاولت النهوض وأحسست بثقل جسدي، وبالكاد نهضت وعند وصولي وجدت أسرار على عتبة الباب تسبح في دماءها، ومن فزعي لم أستطع تفقد إصابتها، أجريت مكالمة سريعة مع جدها أخبره بما حصل وأن يأتي لنُسعفها.

من جانبه يقول الجد الذي كان في السوق: صُدمت بخبر إصابتها وعند قدومي لإسعافها، وجدتها تسبح في دماءها في المكان الذي أراه فيها كل يوم عندما أدخل أو أخرج من باب منزلي -لقد قَطَعَت طريقاً طويلة كي ترانا، ولم نكن نعلم أنها ستكون زيارتها الأولى والأخيرة.

كانت أسرار قد فارقت الحياة حين وصلت إلى المستشفى، لم يستطع اقرباءها دفع تكاليف ثلاجة الموتى لإبقاءها فيها حتى الصباح ، فقاموا بنقلها مساءً للمقبرة، ودفنّها عند الثانية فجراً، أيضاً على صوت الرصاص.

لا يكثروا لأرواحنا

يتحدث جد أسرار بغضب عن سلوك الأطراف المتقاتلة وعن قسوة الحياة التي يعيشونها وبالكاد يستطيعون التصالح معها : “لا يكترثوا لأرواح ساكني هذه المنازل، كل منهم يحارب من أجل السيطرة على الأرض وأن يحكم فيها، وكأنهم لم يكونوا يعلموا أننا قضينا أعمارنا كلها نحارب من أجل البقاء على قيد  الحياة التي سلبوها من حفيدتي أسرار”.

“حياتنا قاسية ومليئة بالتعب والشقاء، قضيناها من أرض لأرض بحثاً عن مكان يأوينا ويحمينا، تنقلنا من محافظة إلى محافظة أخرى حتى استقرينا في محافظة شبوة، وحين عثرنا على مكان أفضل، سرقت منا الحرب أسرار”.