هناك زوايا في الحرب غائبة عن المشهد الإنساني؛ فيها إنسان يلعق جرحه، أو يموت بصمت، دون إعلام يرى، أو ضمير يلتفت، ذلك أن الحرب تشبه حريقاً في غابة؛ لا يرى الرائي منها إلا الأشجار الشاخصة وهي تحترق..
هناك زوايا في الحرب غائبة عن المشهد الإنساني؛ فيها إنسان يلعق جرحه، أو يموت بصمت، دون إعلام يرى، أو ضمير يلتفت، ذلك أن الحرب تشبه حريقاً في غابة؛ لا يرى الرائي منها إلا الأشجار الشاخصة وهي تحترق، ولا يسمع إلا لظى نيرانها وهي تغتاظ، بينما تموت الأحياء التي في الأسفل بصمت، ويكتوي بأوار هذا الحريق حتى من هم على حافة الغابة.
من يبحث بحرص في ضحايا الحرب- هنا- يجد العديد من المآسي التي تقبع في ظلال الوقائع وضحاياها المباشرين، منهم من لا يزال يتلوى من الألم، ومنهم من فارق الحياة على إثر ندبة نفسية، أو صدمة عصيبة.
كناشط حقوقي، في كل مرة أنزل إلى منطقة من مناطق مديريات ساحل تعز الأربع (المخاء، وذو باب، وموزع، والوازعية) لأوثق ما يحدث فيها من انتهاكات لحقوق الإنسان أتفحص بحرص في كلام الشهود فأجد أن ثمة عبارات وجُمل مختفية في السياق، وعند سبرها ينقشع الصمت عن ضحية آخر إلى جوار ضحايا الإصابات المباشرة.
نزلت إلى قرية الصُّفِّي، مديرية الوازعية. في الـ23 من يناير/ كانون الثاني 2020 انفجر فيها لغم مركبات أرضي خلفته جماعة أنصار الله (الحوثيين) بستة أطفال. وجدوه مرمياً جوار قريتهم، فأخذو يعبثون به ويرشقونه بالحجارة عن بُعد، وخلف فيهم إعاقات وجروحاً بليغة.
ذهبت أتفحص أثر هذا الانفجار على الضحايا وذويهم، وأنا أشعر أن ثمة ندوب نفسية ستخلفها الواقعة على محيطها، لا سيما وأن ضحاياها أطفالاً. قال لي شهود إن ثمة طفل اسمه علي ناصر العتومي ( 10 أعوام) وهو أخ لأحد الأطفال الضحايا أصيب بصدمة نفسية وخوف شديد جراء إصابة أخيه، حتى إنه لا يستطيع النوم بهدوء في الليل؛ ويبيت ليله يصرخ ويهرب أثناء نومه، ولا يزال كذلك حتى اللحظة.
في مدينة موزع قصف طيران التحالف بقيادة السعودية والامارات مدرسة الزهراء في الثامن من أغسطس/ آب 2016 وتسبب لها بأضرار بليغة، ولم يُصب أحدٌ من المدنيين بأضرار مباشرة، هكذا قال الإعلام.
لكن ما لا يعرفه الإعلاميون وغالبية أهل المنطقة هي الصدمة النفسية والعصبية التي لحقت بالطفلة نسيبة عمار قاسم والتي كانت تبلغ من العمر حينها 15 عاماً نتيجة الفزع والخوف، إذ أن منزلها يقع بالقرب من المدرسة، وظلت تعاني من فزع وقلق وتوتر، وشرود ذهني، وحالات من الانطوائية والحديث إلى الذات.. ومع طول العلاج والاهتمام استقرت حالتها نسبياً، لكن آثار الفزع لا زالت تهددها.
لم تقف الصدمات عند هذا المستوى من الأثر، فكثيراً ما تؤول هذه الفواجع إلى أمراض فتاكة تنتهي بموت الضحية.
بالعودة إلى مديرية الوازعية، وفي الأول من فبراير/ شباط 2016 ألقت جماعة أنصار الله (الحوثيين) قذيفة هاون على أحد منازل المدنيين في قرية الهشام بمديرية الوازعية، ودمرت البيت بشكل جزئي، كما أصابت رب البيت (47 عاماً) بشظايا في يده وظهره، وأصابت ابنته، أروى (10 أعوام) بشظية في رأسها، وقد تعالجا وتماثلا للشفاء.
لم يتوقف أثر القذيفة عند الرجل وابنته فحسب، لكن الواقعة ألقت بظلالها على الطفل بدر محمد إبراهيم غانم (13 عاماً) وهو ابن رب البيت وأخو المصابة أروى، حين أصيب بفزع شديد جراء هذه القذيفة العمياء، وكان الموت ينضج في داخله بصمت دون يكن يشعر به أحد. بدأ جسمه بالهزال والاصفرار ثم فارق الحياة بعد عشرة أيام من الواقعة.
لنرجع قليلاً إلى بداية هذه الحرب؛ وتحديداً في مساء ليلة الجمعة الـ24 من يوليو/ تموز 2015، حين قصف طيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات مدينة العمال السكنية في المخاء بتسعة صواريخ، وخلفت هذه الواقعة الأليمة 65 قتيلاً مدنياً بينهم 13 طفلاً و12 امرأة وإصابة 36 آخرين على الأقل بينهم 14 طفلاً و13 امرأة.
كانت إلى جوار المدينة السكنية من الجهة الجنوبية حارة في مدينة المخا اسمها العمودي، وهي الأقرب للمدينة السكنية التي تم استهدافها، وكان الأهالي فيها يعاينون مشهد القصف كجزء من فيلم مخيف في ليلة شديدة الظلام، لا ضوء فيها سوى وهج الصواريخ حين تنفجر وترسم أشكالاً من الأشباح على جدران البيوت.
في أحد منازل هذه الحارة كان الصياد إسماعيل علي عبدالله بُرَيق (55 عاماً) الذي يعاني من أمراض في الشرايين يرى هذا المشهد المهول (تسعة صواريخ تنهال تباعاً على مدينة مكتظة بالسكان) فأخذ ينادي بأفراد أسرته وقد تمكن منه الفزع: انبطحوا.. انبطحوا.
يروي نجله ياسر ( 30 عاماً) اللحظة قائلاً: انبطحنا جميعاً، وانبطح هو معنا، ومكثنا ملتصقين بالأرض حتى أيقنا أن الطيران قد فرغ من إلقاء الصواريخ وذهب، ثم نهضنا، لكن والدي ظل ملتصقاً بالأرض.
تحدثنا إليه بأن الطيران قد ذهب، وأن بإمكانه النهوض فلم يعر حديثنا أي اهتمام، وظل على هيئته، فانتابنا شعور بالخوف عليه عندما لم يرد. ذهبنا إليه نستنهضه فوجدناه مسترخياً لا يتحرك، ثم تحسسنا قلبه فوجدنا أنه قد توقف عن النبض!
اتصلنا بأحد الأطباء ليأتي إلى البيت ويفحصه، ولم نستطع الخروج وإسعافه نظراً لتأخر الوقت أولاً، ولظرف الحرب والقصف ثانياُ، هذا فضلاَ عن أنه لم يكن هناك أي مستوصف أو عيادة مفتوحة، وحين فحصه الطبيب وجد أنه قد فارق الحياة. ثم بتنا ليلتنا نتقلب بين الحزن والخوف الشديدين، ولم نستطع الخروج خوفاً من الطيران حتى قبرناه في وقت الفجر.
في هذه الواقعة تحديداً، لا يزال الناجون وأهالي الضحايا يجترون الكثير من الأمراض والمضاعفات النفسية والصحية إلى هذه اللحظة، في مقدمتها بعض العلل المزمنة، حسب إفادة رئيس جمعية ضحايا ومتضرري المدينة السكنية.
ويفيد رئيس جمعية ضحايا ومتضرري مدينة العمال السكنية يحي عبدالصمد السباعي (36 عاماً) أن سلسلة من الأمراض المزمنة، ابتداءً بأنواع السرطانات، والسكر، والقلب، والكبد قد تفشت في الناجين، والجرحى، وأهالي الضحايا بشكل ملفت للنظر، ولم يكن يعاني منها المذكورون قبل واقعة القصف البشعة، ويرى أن سبب ذلك هي الآلام النفسية والعصبية التي خلفتها تلك الليلة الكئيبة والمرعبة، بالإضافة إلى المواد المنبعثة من الصواريخ المتفجرة.
عانى الكثيرُ من أهالي المنطقة أيضاً من التشريد والنزوح، بالتفضيل أو الإكراه، بحثاً عن أمان لأنفسهم وأسرهم، وكلفهم ذلك الكثير من المعاناة المادية والمعنوية، لكن كل ذلك لم يكن ليحميهم من سعير الفجائع التي تفرضها الحرب، والتي لم تتوقف عند حد جغرافي معين، فالبلد كلها أضحت جغرافيا حرب عمياء.
محمد علي سطا (60 عاماً) من قرية الكُديحة، مديرية المخاء، كان ممن تم تهجيرهم بالقوة من قبل جماعة انصار الله (الحوثيين) في صيف عام 2017، فأخذ زوجته وبناته الثلاث واختار مدينةَ حَيس التابعة لمحافظة الحديدة والواقعة على بُعد ما يزيد عن 80 كيلو متر إلى الشمال من قريته، مستقراً مؤقتا، وظناً منه أنه قد ابتعد ما يكفي عن التهديد والمخاوف.
في مطلع فبراير/ شباط من العام 2018م، كانت قد تقدمت القوات المشتركة المدعومة إماراتياً إلى أجزاء من مدينة حيس، وحدثت فيها معارك ضارية، خلفت الكثير من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين.
وفي إحدى ليالي المعارك الشرسة بات محمد علي ليلته وقد تمكن منه القلق والتوتر على بناته، ثم أصبح الصباح بجسد منهك من شدة الخوف والسهر. تناول محمد علي طعام الإفطار، ثم خرج من البيت يبتغي حاجة أسرته من السوق، وما إن نفذ من باب بيته إلى الخارج حتى وجد خمس جثث قتلى تعود لأحد طرفي النزاع.
كان هذا المشهد بالنسبة له هو القشة التي قصمت ظهر البعير، فاستدار وعاد أدراجه واستلقى على فراشه، ولم يلبث أن ظهرت عليه أعراض جلطة في الدماغ، تم إسعافه على إثرها إلى مدينة عدن. وهناك مكث عشرة أيام في موت سريري فارق على إثره الحياة.
أصبح الأهالي في مناطق النزاع بحاجة مُلِحة إلى اهتمام نفسي متخصص وواسع من قبل الجهات الرسمية والمنظمات المتخصصة، ينظر في الندوب التي تحدثها هذا الحرب، وأضحى الوضع يلقي بالمسؤولية على الجميع؛ ليقوم الكل بدوره تجاه هذا المجتمع. ففي ظل كل واقعة، وتحت كل ضحية بالمباشرة يستفرد الألم والموت بضحايا لا يؤبه لهم.