حين اختفى "معتز" في مساء الربيع
"في الساعة الثامنة من إحدى مساءات شهر فبراير/ شباط 2020، كنت أنا ومعتز في المنزل، قبل أن يغادره إلى المجهول، عند سؤالي له عن المكان الذي يقصد الخروج إليه، أخبرني أنه سيعود، وترك هاتفه النقال، لأن بطاريته كانت قد نفدت". بهذه الكلمات يستهل مازن الشجيفي (40 سنة)، قصة اختفاء أخيه معتز الشجيفي (25 سنة) قسريًا منذ أربع سنوات.
يقول: "كان معتز شابًا طموحًا، حصل على درجة البكالوريوس في مجال الجرافيك، وعمل موظفًا لدى شركة "ماس" للدعاية والإعلان".
يتابع مازن (شقيق الضحية): "ظننت أنه سوف يذهب إلى السوق لشراء بعض الحاجيات؛ فقد كان ينوي زيارة والدتي التي حرمته ظروف الحرب والحصار المفروض على تعز من رؤيتها. فوالدتي تقيم في المدينة، ومعتز كان عازمًا على السفر إليها منذ نحو يومين. أتى الليل، ونحن ننتظر عودة معتز؛ لبثنا حتى وقت متأخر، لكنه لم يعد. زاد خوفي وقلقي، لا سيما أننا نعيش حالة انفلات أمني، وظروف حرب طاحنة. وحتى أطمئن نفسي، خطر ببالي أنه ربما قرر فجأة السفر صوب مدينة تعز.
لم يغمض لي جفن، وكنت أُمني نفسي أن يكون بخير، وألا يصيبه أي مكروه. كانت ساعات طويلة من القلق والانتظار، لكن لم يخطر ببالي أنني لن أرى أخي مجددًا، خاصة أنه شخص مدني مسالم، ولا ينتمي لأي طرف من أطراف الحرب.
ولأن الوقت كان متأخرًا، ولأني كنت بحاجة لمزيد من الوقت لألملم شتات أفكاري، ولم أشأ ازعاج والدتي بسؤالي عنه. وفي صبيحة اليوم التالي، قمت بالتواصل مع والدتي وكلي أمل أن يكون موجودًا، لتكون الصدمة عندما أجابتني أنها لم تر وجهه منذ أكثر من شهرين.. قالت أيضًا إنها حاولت الاتصال به لكن دون فائدة.
عند ذلك، تلعثمت ولا أدري ما الذي أقوله؛ حاولت طمأنة والدتي بافتراض أنه ربما يكون عند أحد رفاقه. ثم توجهت فورًا إلى النيابة العامة وتقدمت ببلاغ واقعة الاختفاء، وتم إحالة البلاغ إلى مدير البحث الجنائي، لاتخاذ الاجراءات.
التقيت مدير البحث الجنائي وشرحت له تفاصيل الواقعة، فوعد بالبحث والمتابعة. وأثناء متابعتنا للقضية، أفاد مدير البحث بأنه تحرى عنه في الأقسام والسجون، ومن ذلك مُحتجز مدينة الصالح، لكنه لم يجد له أثرًا، لكنه وعد بإجراء اتصالات مع عدد من مديرات تعز، لعله يصل إلى معلومات عنه، كما عد بتعميم صورة أخي في تلك المديريات لتوسيع دائرة البحث.
زاد قلقي وحيرتي على شقيقي وسندي في الحياة، وأظلمت الدنيا في عينيّ وعيون إخوتي ووالدتي التي لم تكف عن البكاء منذ تلك الليلة. وفي كل لحظة انتظار أقضيها في تذكّر أحاديثي معه لعلي أجد بين السطور ما يدلني عليه أو يقودني إلى مكانه، أجد كل الطرق أوصدت في وجهي.
طفقت أتردد على إدارة البحث بشكل متواصل، وأحيانًا كنت أتواصل معهم عن طريق الهاتف لمعرفة ما يمكن أن يستجد. وأثناء متابعتي الحثيثة، لدى بعض القيادات العاملة لدى جماعة أنصار الله (الحوثيين)، أخبرني أحدهم -رفض الكشف عن اسمه- أن أخي معتز مُحتجز في مدينة الصالح، وطلب مني مبلغًا ماليًا نظير التواصل معه عبر الهاتف، ووعدني أنه حالما تسنح الفرصة، سيتواصل معي مقابل إعطائه المبلغ المالي.
عاود الأمل طريقه إلى قلبي، لكن الأمل سرعان ما تبدد، إذ أقفل ذلك المصدر هاتفه وأعادنا إلى مربع اليأس مرة أخرى. أثناء بحثنا عن معتز لم نترك بابًا إلا وطرقناه. صادفتنا العديد من قصص وروايات عن أخي، لكن معظمها كان للابتزاز أو للعب على مشاعرنا.
تعبنا وأُرهقنا ونحن نبحث عن خيط أمل؛ أمي تعاني منذ هذا الاختفاء، فلا يغيب عن بالها طيف معتز، ولا تنفك تذرف الدموع عليه حتى أصاب عينيها الضعف، لاسيما وأنه أصغر أبنائها وأحبهم إلى قلبها، وكلما سمعت قصصًا لأشخاص تعرضوا للاحتجاز أو التعذيب يتبادر معتز إلى ذهنها فتغرق في نوبة بكاء.
لم تفقد أمي الأمل، وإيمانها بالله قوي، وفي كل يوم يزداد بأن أخي سيرى النور يومًا ما، وسوف يعود إلى حضنها، وإلى أسرته التي فقدت بغيابه معنى الفرح؛ كلما مرت مناسبة للبهجة سرعان ما تختفي وراء ما نحن فيه من عذاب وغصة، وألم لا يمّحي..."، يختم مازن.