عشنا أيامًا بطعم الموت.. ولازلنا نعيشها

أخت تحكي معاناة احتجاز أخيها المصاب بالصرع

March 27, 2023

كيف للمرء أن يقف بثبات وكل ما يحيط به يدفعه للسقوط؟ لا سيما إن كنا نعيش في بلاد تطحنها الحروب والفوضى، وصار بعض أبناؤها في عداد المُغيّبين قسريًا، بسبب ما يعانونه من جور وظلم واستبداد.

باسط ناجي (اسم مستعار) شاب من محافظة تعز، يبلغ من العمر سبعة وعشرين عاماً، يعاني من زيادة في الشحنات الكهربائية (صَرَع)، نزح هو وأخته ووالدته من تعز إلى محافظة الضالع، باحثين عن سلام وهدوء، بعد أن صارت حياتهم في المدينة التي ولدوا فيها في خطر بسبب تصاعد وتيرة الحرب والقصف. لكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه.

تروي ريهام (اسم مستعار) بصوتٍ يملأه الحزن مأساة أخيها المعتقل بالقول:

“اضطررنا أن نغادر منزلنا في مدينة تعز بسبب الحرب، حيث تعرضت منطقتنا لقصف كبير، ولم نعرف أين نذهب، فتحدثت إلينا خالتي التي تقيم في الضالع، وطلبت منا أن نأتي إليها، فليس لها أولاد وتعيش مع زوجها وحيدين. ولم تسمح لنا استئجار بيتاً، وطلبت منا الاقامة عندها.

في يوم الخميس 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 خرجتُ أنا وأخي وخالتي بعد المغرب إلى السوق كي نشتري بعض الملابس لأننا كنا قد قررنا الذهاب إلى عدن بعد يومين من أجل علاجه، باسط لا يستطيع المشي كثيراً في النهار، وتحت أشعة الشمس، لأنه يتعرض لحالات إغماء بسبب الشحنات الزائدة في جسده مع ارتفاع درجة الحرارة.

أرسلَ أخي المغترب بمبلغ ثمانية ألف ريال سعودي، وضعها باسط في الجيب الداخلي للجاكيت الذي كان يرتديه، اقترحت خالتي أن نقوم بمصارفة المبلغ في محل الذهب الذي بجوار المجمع لأنه كما تقول أفضل وأقرب.

عندما غادر باسط المحل، كان هناك اثنين من الجنود الملثمين، يحملون سلاحاً فأمسكوا به، وقالوا له: “نريد أن نتحدث معك”، فقال لهم: “لن آتي إليكم”، وحاول الإفلات من قبضتهم، لكنهم كانوا يمسكونه بقوة. طلبت منهم، فقلت لهم أنا وخالتي اتركوه ماذا تريدون منه؟ قالوا له: “أين بطاقتك الشخصية؟”

قال لهم: “لماذا تريدونها؟”، ردّوا: “سنتأكد من هويتك ومن أنت”. أخذوا البطاقة ورفضوا أن يعيدوها، وقالوا لباسط: “أنت (دحباشي) ما الذي أتى بك إلى هنا؟!”.

قالت لهم خالتي: “يا أولادي دعونا نذهب ماذا تريدون منا؟”، من العيب هذا الذي تفعلونه فقالوا لي ولخالتي: “أنتن اذهبن، سيعود إليكم بعد نصف ساعة”. ولأن باسط قاوم الذهاب معهم، ضربوه، فأصيب بالتشنج، وبدأ بالصراخ، فأدخلوه عنوة إلى جوف سيارة كان بداخلها جندي ملثم يقعد بجوار سائقها، إلى جانب عسكري آخر كان يقف بجانب المتجر. بقينا نبكي ونصرخ، فيما خالتي تنادي وتستجدي، لكن لا مجيب، فالجميع يخافون ولم نعد نعرف ماذا نفعل.

اتصلت بأخي نجيب (اسم مستعار) وأنا مثل المجنونة أجوب شوارع الضالع، وأخبرته ما حدث فأصيب بالذعر، وقال لي: “اذهبي مع خالتي إلى البيت، لا تجلسا في الشارع، فالليل قد لف المكان بظلامه”.

كدتُ أموت من الذعر والخوف على باسط، أبكي تارة وأدعو تارة أخرى له بالعودة بالسلامة، ثم ذهبنا أنا وخالتي إلى البيت.

عندما عَرِفت أمي بالخبر أصابها الإغماء، فنقلها خالي إلى المستشفى وذهبت معهم، وكان أخي نجيب يتصل ليطمئن، وكنت في حيرة من ناحية مرض أمي ومن ناحية أخرى اعتقال أخي. بعد الفحص والمعاينة أخبرنا الأطباء أنها أصيبتْ ببداية جلطة، ونصحوها بأخذ أدوية والابتعاد عن الانفعال.

في ذلك اليوم لم أنم فمرض أمي والقبض على باسط واتصالات نجيب المتكررة أفكار سوداء تحلق فوق رأسي وتنهشه.

وكان أيضاً نجيب يتصل بخالي، واتفق معه أن يبحث عن باسط في الصباح، طلبت من خالي الحضور معه، للبحث عن أخي، لكنه رفض وأراد مني البقاء مع والدتي، ثم عاد ظهرًا، وأخبرنا أنه لم يجد له أثر، فساءت حالة أمي بشكل أكبر، لاسيما وأن أخي لم يأخذ أدويته معه، ولم يدخل السجن في حياته، فعشنا أيامًا بطعم الموت ولازلنا نعيشها.

في المرة الثانية، رافقت خالي في رحلة البحث عن باسط، وكانت زيارتنا إلى إدارة الأمن، وبعدها البحث الجنائي، ثم ذهبنا إلى النيابة والجميع يرددون علينا نفس الإجابة: “لا نعلم أين هو”، كما ذهبنا إلى أحد جيراننا ويعمل مع (الانتقالي الجنوبي) ولكنه لم يفعل شيئاً، كما قام خالي بالسؤال والتقصي بواسطة معاريف له في الحزام الأمني ولكن دون فائدة.

“لم نعرف أين أخذوه ولمَاذا؟ هل من أجل المال الذي كان معه؟  أم بسبب أننا غرباء هنا؟”  الكثير من الأسئلة تحلق بسوادها في رؤوسنا ولكننا لا نجد لها إجابات.  وكانت أقربها والتي ترتد إلينا هي: نعم لقد كان يحمل المال وهاتفه معه. اختفى باسط في لمحة بصر، كنا سنأخذه إلى عدن للعلاج، ثم نعود لنفتتح له مشروعاً صغيراً بدلاً عن جلوسه في البيت.

بعد أسبوع أو عشرة أيام تقريباً من اليوم الذي اختفى فيه، جاءني اتصال لم يظهر فيه رقماً ولا اسماً. أجبت فقال لي إنه يعلم أين أخي، لكنه اشترط مقابلاً مالياً لكي يتوسط لإطلاقه. طلب مبلغ عشرة مليون ريال (ما يعادل 12 ألف دولار) حين أخبرته بأن المبلغ كبير جداً، قال لو لم تكونوا تملكون، ما كان في جيب أخيك ثمانية آلاف ريال سعودي، فقلت له إن الأموال كانت من أجل علاجه، فأخي مريض وبه شحنات في الدماغ، ثم سألته: “هل أخي بخير؟”، قال: “نعم إنه بخير وأقسم على ذلك”.

وبعجلة قال: “احضروا المبلغ، كي أخرجه من السجن”، وحين سألته عن اسمه، قال فاعل خير، وقال إنه سيعاود الاتصال لكنه لم يفعل.

تحدثت إلى نجيب أخي، فقال إنه سيأتي بالمبلغ ولو اضطر للاستدانة، ولكن علينا الانتظار لنتأكد أن الرجل ليس محتالاً، وقال لي: “إن اتصل هذا الرجل أطلبي منه مهلة لتأمين المبلغ”، لكن الاتصال لم يأتِ.

أخبرت خالتي وزوجها بالاتصال فوافقوا نجيب رأيه، وأن الرجل ربما كان محتالاً لكني مع هذا أردت التعلق ببعض الأمل (هنا انهارت أخت الضحية باكية وخاطبتني):

“لو أنك ترين أمي سترين كيف هدت الأيام جسدها، فباسط كان مدللاً نعتني به وبعلاجه وبنظافته، وعندما كانت تأتيه نوبات الصرع، كنا نبكي عليه فتدمع عيناه لأجلنا. جربنا أن نعالجه في تعز لكن العلاج لم يكن نافعاً، وأخي نجيب دخل السعودية للعمل حديثًا، وعندما احتجناه لمعالجة أحمد فقدناه هو الآخر.

أريد أن يعود أخي سالماً معافى في جسده، فقد كان قبل اختفائه، لا يغادر المنزل لأنه الشمس تزيد شحناته الكهربائية، ولذا يخرج قليلاً بعد العشاء ليجلس مع الجيران ثم يعود ليأكل وينام، وفي النهار يبقى جالساً في البيت. ليس مؤذياً حتى أنه لا يتكلم في السياسة، فلماذا يأخذونه ويخفونه وهو على هذا الحال؟!”.