مدينة تعز بين الموت المجاني وإرادة الحياة

تظل أبواب المقابر مشرعة أمام سيل الموتى المتدفق بسبب الصراع في تعز.

September 30, 2018
مشهد لجانب من الدمار الذي خلفته المواجهات في حي ثعبات شرق مدينة تعز. التقطها: أحمد الباشا (26 فبراير/شباط 2018).
مشهد لجانب من الدمار الذي خلفته المواجهات في حي ثعبات شرق مدينة تعز. التقطها: أحمد الباشا (26 فبراير/شباط 2018).

30 سبتمبر 2018

سالي أديب (مساعدة بحث مركزي)

منذ أن وضعت الحرب أوزارها في مدينة تعز ومجالات الحياة الحرة والآمنة تتقلص يوما بعد آخر.

أثناء سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيون) على وسط المدينة، منذ مطلع العام 2015 حتى منتصف العام 2016، مارست الجماعة في حق المدنيين أبشع أنواع الانتهاكات، وكان نهمها لجنون الانتهاك يزداد كلما مر يوم على المدينة المحاصرة حد الاختناق .

منذ يوليو/ تمّوز 2016، بدأت فصائل “المقاومة الشعبية” المسلحة بدحر جماعة أنصار الله (الحوثيين) من عدة أحياء غرب ووسط مدينة تعز، إضافة لبعض الأحياء الشرقية من المدينة. حينها اعتقد كثيرون من سكان المدينة ذات الكثافة السكانية الأعلى في اليمن، أن دورة حياة جديدة سوف تنعش مدينتهم بالتزامن مع الخلاص من سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين). لم يكن يدور في خلد البسطاء أن تلك الفصائل المسلحة ستدشن فصلاً جديداً من فصول مأساة المدينة المنكوبة.

هكذا لم يكن يمر أسبوع آمن على مدينة تعز حتى يعكر صفوها صراع الشركاء على السيطرة، فيعود الخوف ليلتحف الوجوه المرهقة من الموت المجاني. وظلت أبواب المقابر مشرعة أمام سيل الموتى المتدفق إليها مع تجدد دورات القتال بين فصائل المقاومة. لم يكن لدى الجماعات المسلحة المتصارعة داخل المدينة ما تقدمه للمدنيين سوى تلك الصدوع الضيقة لدفن أبنائهم؛ ضحايا الصراع المجنون الذين يصنف موتهم في سجلات الوفاة كـ”جريمة جنائية والقاتل مجهول”. هذه الجملة الاعتراضية التي تكررت في سياق تقارير أحداث الموت الكارثية.

في الأسبوع الذي سبق عيد الأضحى المنصرم، اندلعت جولة جديدة من جولات الصراع بين فصائل “المقاومة الشعبية” المسلحة التي يرتدي مقاتلوها أزياء الوحدات النظامية للجيش والأمن.

قتلت المعلمة نجاة عبدالرحمن أمام عيني طفلها؛ الطفل الذي هربت به من منزلهم الواقع في حيّ المستشفى العسكري حين كان لا يزال تحت سيطرة مقاتلي جماعة أنصار الله (الحوثيين). هربت به مع بقية أطفالها إلى وسط المدينة لتحميه وتحمي نفسها من الموت، لكن موتاً آخر تلقّفها حيث اعتقدت أنها في مأمن. لم يفهم أطفالها حتى الآن لماذا قتلت رصاصات المقاومة أمهم؟ لماذا الحرب موجعة إلى هذا الحدّ، ولماذا يسرق منهم مقاتلو أبو العباس ومقاتلو حزب الإصلاح، أعيادهم وأفراحهم؟

أصبحت مدينة تعز بسبب هذه الفصائل المسلحة، مدينة الموت، وتقدم إليه كل يوم قرابينها من المدنيين؛ أطفالاً ونساءً ورجالاً. مات في نيران هذه الصراعات من مات، أما من نجا فلم ينج من وطأة الخوف الدائم، لتصبح بذلك فصائل المقاومة إلى جانب جماعة أنصار الله (الحوثيين)، بالنسبة لأهالي تعز، قَدَراً أسود. كما أصبحت الحياة في هذه المدينة، أياماً للحزن والفواجع.

ماهر الحبيشي أحد الضحايا المدنيين في صراع فصائل المقاومة المسلحة. قال والده إنهم كانوا يسكنون في حيّ صالة الواقع تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين). وأضاف الوالد المفجوع بمقتل ابنه: “كان ماهر يتألم بشدة كلما رأى ضحايا أبرياء يسقطون جراء قذائف جماعة الحوثي التي ترسل لهم الموت بدون ذنب. وفي غمرة غضبه، قرر الالتحاق بالمقاومة ليساهم في دحر الحوثيين من المدينة، لكنه تراجع نزولاً عند رغبتي. وهاهو اليوم يقتل على أيدي من كان سيشاركهم القتال ضد الحوثيين”.

وتابع الحبيشي: “لم تبق هذه الجماعات قامة عالية في المدينة إلا قامة الموت. دفنت ابني ووعدته بأني لن أموت قبل أن ابصق في وجوه قاتليه. لماذا يسرقون دمنا؟ فليملئوا جيوبهم بما شاءوا.. سيبقى لنا الدم والذاكرة.. بهما سنحاسبهم”.

استمر الصراع الأخير أسبوعاً. أسبوع أسود اكتظت خلاله المستشفيات بالضحايا المدنيين، قتلى وجرحى، حتى توصلت الفصائل المسلحة إلى اتفاق بوقف القتال. في اليوم التالي، خرج أهالي تعز للاحتفال بحلول عيد الأضحى. خرجوا بوجوه شاحبة وأرواح شاخت قبل أوانها، لكنهم رغم ذلك، ارتدوا الألوان الفرائحية في محاولة للتغلب على مخاوفهم وأحزانهم. إنها إرادة الحياة التي يتوجب على المتحاربين أخذها بالحسبان.