كان المطار مغلقاً فماتت

قصة إنسانية تروي تفاصيل واقع مؤلم يعيشه اليمنيون بسبب إغلاق مطار صنعاء

September 13, 2018

13 سبتمبر 2018

ارتبط عُباد بأمه كلياً؛ فمنذ كان عمره عدة أيام فقط، مات أبوه؛ قُتِل في إحدى جولات النزاع المسلح التي شهدتها المناطق الوسطى بداية ثمانينيات القرن الماضي. وبعد أن صار رجلاً، ماتت أمه. ماتت الأم التي رفضت الزواج بعد أبيه، مكرّسة حياتها لابنها الوحيد، رغم ترمّلها في بداية شبابها. عاش عباد في كنف أمه حتى صار رجلاً، لكنه في قصة موتها، وقف عاجزاً أمام استغلاق فرص إنقاذها من الموت. أقرب فرصة كان نقلها إلى خارج البلاد عبر مطار صنعاء. لكن المطار كان مغلقاً، فماتت. كان الأمر مؤلماً للغاية وبالغ القسوة، ذلك أنه كان يمكن أن تنجو من الموت، لولا أن فرص الحياة في اليمن أصبحت، بصورة ما، شبه محظورة.

منذ مارس/ آذار 2015، فرض “التحالف العربي” بقيادة السعودية، حظراً على الطيران في اليمن، وبموجبه اُغلقت معظم المطارات اليمنية، بما فيها مطار صنعاء. وبالإضافة إلى الحرب، ضاعف الحصار معاناة اليمنيين.

في قصة الموت المؤلمة هذه، يروي عُباد يحيى أحمد أبو حاتم، ماذا يعني إغلاق مطار؟ فقد اختبر في ذلك، الصورة المتعسفة لموت أمه، التي كانت بحاجة لإجراء عملية جراحية لتغيير صمامات قلبها في الخارج. حالتها الصحية كانت وصلت حداً من التدهور جعل سفرها مستحيلاً عبر مطار عدن. “أخبرني الطبيب بأن حالتها لا تسمح بالسفر براً إلى عدن. قال إنها يمكن أن تموت في الطريق.” قال الابن المفجوع.

تحدث عُباد عن اللحظة التي دخل فيها غرفة العناية المركزة، غير مصدق رحيلها. غطى وجهه عند قدميها وبكى؛ “لم أجرؤ على النظر إلى وجهها أو تقبيلها.” قال ذلك وارتعش صوته، عاجزاً عن مواصلة الحديث. لطالما شعر بالذعر من أن يحدث له ما يجعل الرجال يندبون ويصرخون حين يموت أقاربهم. فهي لم تكن مجرد أمّ، قال عُباد: “لقد فعلت لأجلي كل شيء”.

على إثر موت زوجها، تركت لها معاناتها مرضاً مبكراً في القلب؛ أُجريت لها عملية توسيع صمامات قبل 25 عاماً، في مستشفى الملك فيصل بالسعودية. حينها، أخبرها الطبيب بأنها ستحتاج لتغيير صمامات القلب بعد 15عاماً. ولأن عملية توسيع الصمامات كانت ناجحة، رفضت إجراء العملية الأخرى لدى طبيب آخر. وعندما حان الوقت لإجرائها، واجهت ظروفاً حالت دون ذلك؛ منها، صعوبة الحصول على تأشيرة دخول إلى السعودية.

حين بدأت الحرب وشاهدت أمه، كما يقول، المجازر التي ارتكبها الطيران السعودي في اليمن، قالت إنها لن تذهب إلى هناك ولو تمزقت أشلاؤها. لم تكن تعرف أنها ستكون ضحية بطريقة أخرى لهذه الحرب؛ فما أن اقتنعت بإجراء العملية في بلد آخر، كانت المطارات والمنافذ قد أُغلقت.

عاش عُباد وحيداً مع أمه؛ كانت تملأ عالمه الذي أصبح مظلماً بعد رحيلها. حاولت أن تخفي عنه شدة المرض، لكنها انهارت في الربع الأخير من العام 2016. لم تعد قادرة على المشي.

في يناير/ كانون الثاني 2017، زاد وضعها الصحي سوءاً، ولم يكن أمامه سوى إدخالها غرفة العناية المركزة في المستشفى العسكري بصنعاء. انحسار خياراتها، جعلها تقتنع بإجراء العملية في اليمن- كانت ترفض ذلك بشدة سابقاً. ولعدم وجود صمامات للقلب في صنعاء (انعدمت الكثير من الاحتياجات الطبية بسبب الحرب)، حاول توفيرها من الخارج، لكن قلبها الضعيف لم يكن قادراً على الانتظار. كان الطريق الوحيد لنجاتها مطار صنعاء.

وجاء اليوم الأقسى في حياة عباد؛ 11 فبراير/ شباط 2017؛ خرج الطبيب من غرفة العمليات وطلب منه أن يتبعه إلى غرفة أخرى مجاورة.

قبلها بيومي، طلبت أمه منه، خوخ وعنب وبرقوق. شعر بالخيبة لأنها طلبت فواكه في غير موسمها. لكنها كانت تريدها بشدة، ولحسن حظه، عثر عليها في سوبر ماركت وسط صنعاء.

صبيحة العاشر من فبراير/ شباط، لاحظ أن أمه تتعافى. كانت تتكلم وتأكل من تلك الفواكه بنهم غير معهود. لم يرها تفيض حيوية منذ فترة. حتى حديثها كان شديد الوضوح؛ لطالما تاه منها الكلام. شكر الله معتقداً أنها تتماثل للشفاء، وغادر المستشفى لتغيير ملابسه. لكنه بعد ساعة ونصف فقط، كان يصعد سلّم المستشفى بخطوات واسعة وقلب مفزوع. ذلك أنه تلقى اتصالاً يخبره أن حالة أمه الصحية تدهورت. تفاجأ بأنها دخلت في غيبوبة اقتضت مساعدتها على التنفس بأنبوب. أخبره الطبيب بأن ما يضخه الصمام من الدم، كان بخرم الإبرة. لقد كانوا يتوقعون انهيارها في أية لحظة.

حاول الأطباء إجراء عملية قسطرة لها، غير أنهم واجهوا مشكلة ميوعة في الدم. حاولوا أيضاً رفع ضغطها، إذ كان منخفضاً للغاية. استمرت بتلك الصورة لليوم التالي.

كان عُباد ينتظر أمام غرفة العمليات. لم يتغير شيء؛ حركة الممرضات المعتادة، وعامل النظافة يمرر المسّاحة على الأرضية المبلّطة. وفي الغرفة المجاورة، سأله الطبيب إن كان ابنها.

ما اسمها؟ عاد ليسأله الطبيب، غير أن السؤال استفز الابن.

وتابع عباد: “أجبته منفعلاً: مش معقول أن تكون طبيبها ولا تعرف اسمها.” كان الطبيب صامتاً، بينما استمر عُباد ينفث غضبه: “لماذا تسألني هذا السؤال؟”، وتصاعد صوته: “لو هي ماتت أخبرني، الله يرحمها.” وبصورة صادمة وصاعقة، رد الطبيب: “الله يرحمها.”

تركوه وحيداً في غرفتها. ركع في طرف السرير عند قدمها وبكى بصمت. لم يقدر على مغالبة الألم، فاضمحل صوته. وبعد أن استرد أنفاسه علق: “على الأقل، كانوا سيسمحوا برحلات محددة من صنعاء لأجل الحالات الحرجة.”