شبوة... غياب طويل للدولة وانتهاكات تفخخ المستقبل

تتجسد مرارة تلاشي سلطة الدولة في مدينة شبوة، وتحتفظ الفوضى والموت العبثي بصدارتهما في حياة الأهالي. بينما يتعرض المدنيون في شبوة، لانتهاكات متعددة أفضى بعضها إلى الموت.

March 19, 2019

 لمحة عن وضع حقوق الإنسان في محافظة شبوة

19 مارس/ آذار 2019

تتكون محافظة شبوة من 17 مديرية موزعة على مساحة تزيد على 40 ألف كيلومتر مربع. وقد شهدت بعض هذه المديريات منذ مطلع العام 2015، مواجهات مسلحة بين مقاتلي جماعة أنصار الله المسلحة (الحوثيين) وقوات حليفهم السابق الرئيس السابق علي عبد الله صالح من جهة، وبين مقاتلي مجموعات المقاومة المدعومة من التحالف بقيادة السعودية والإمارات، والجيش الموالي للرئيس  عبد ربه منصور هادي من جهة مقابلة.

لم تكن شبوة محافظة هادئة رغم مساحتها الكبيرة مقارنة بعدد سكانها المقدر بنصف مليون نسمة. ففي الفترة الممتدة بين العامين 2011 و2014، شن الجيش اليمني، بين وقت وآخر، هجمات على مسلحي تنظيم القاعدة الذي كان نفوذه يتسع كلما ارتخت قبضة الدولة على المحافظة.

بحلول أواخر مارس/ أذار 2015، كانت جماعة أنصار الله (الحوثيون) قد أكملت السيطرة على العاصمة صنعاء والمحافظات الشمالية، وتسعى لإكمال سيطرتها على المحافظات الجنوبية. وعلى إثر الإنقسامات السياسية ودخول الجماعات المسلحة في الصراع على السلطة، ثم التدخل العسكري للتحالف الذي قادته السعودية والإمارات، استمرّ سكان محافظة شبوة في دفع ثمن التلاشي المرير لسلطة الدولة الوطنية، وغيابها الطويل.

في 29 مارس/ أذار 2015، سيطر مقاتلو جماعة أنصار الله (الحوثيون) وقوات حليفهم السابق صالح، على المديريات القريبة من محافظتي مأرب والبيضاء. وقد كان لمديرية بيحان المحاذية لهاتين المحافظتين النصيب الأكبر من موجات العنف التي طالت المدنيين. بعد قرابة 12 يوماً من سيطرتهم على مديريتي بيحان وعسيلان، تمكن مقاتلو أنصار الله (الحوثيون) وقوات حليفهم السابق صالح، من السيطرة على مركز المحافظة: عتق. ومع حلول نهاية شهر مايو/ أيار من نفس العام، سيطروا على مديرية الصعيد. لقد دارت بين الطرفين معارك ضارية شارك فيها طيران التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، إلى جانب مقاتلي المقاومة الشعبية والجيش الموالي لهادي. تسببت تلك المعارك بمقتل عشرات المدنيين، وتدمير الكثير من الأعيان المدنية، بما في ذلك منشآت حيوية كالمدارس والمستشفيات.

خلال فترة تواجد أنصار الله (الحوثيين) في شبوة، كانوا مسؤولين عن عدد من الانتهاكات؛ فقد مارسوا الاعتقالات التعسفية بحق المدنيين وتجنيد الأطفال، وكذلك زرع الألغام قبل انسحابهم.

كانت مديريتا بيحان وعسيلان آخر مناطق سيطرة أنصار الله (الحوثيين) بعد انسحابهم، في أغسطس/ آب 2015، من عتق (مركز المحافظة) ومديريتي الصعيد والمصينعة. وعلى إثر المعارك التي دارت بينهم وبين قوات هادي منذ منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2017 حتى مطلع يناير/ كانون الثاني 2018، صارت محافظة شبوة بالكامل تحت سيطرة القوات الموالية لهادي ومقاتلي “النخبة الشبوانية” المدعومة من قبل الإمارات العربية المتحدة.

سيطرت “النخبة الشبوانية” ووحدات الجيش الموالي للرئيس هادي على محافظة شبوة، منذ يناير/ كانون الثاني 2018. رغم ذلك، تزايدت حالات انتهاك حقوق الإنسان في المحافظة، وتعددت أنماطها؛ من الاعتقال التعسفي إلى الاختفاء القسري، والتعذيب. وتفيد وقائع الانتهاكات التي وثقتها “مواطنة” لحقوق الإنسان في شبوة، أن أطراف النزاع يختلفون في كل شيء ويتشابهون في شيء واحد؛ انتهاك حقوق المدنيين.

في الوقائع التالية، تتجسد مرارة تلاشي سلطة الدولة، واحتفاظ الفوضى والموت العبثي بصدارتهما في حياة الأهالي. وهي نماذج فقط، لعشرات الحالات التي تعرض فيها مدنيون في شبوة، لانتهاكات متعددة أفضى بعضها إلى الموت.

عند حوالى الساعة الـ3:40 من عصر الأحد 1 يوليو/ تموز 2017، تعثر المواطن سالم عبدالله عمر غالب (48 سنة) بلغم أرضي، بينما كان ذاهباً لريّ مزرعة القضب خاصته في مديرية عسيلان. يقول أحد أقاربه: “قصد سالم مزرعته لريّ أشجار القضب التي اعتاد أن يزرعها. لكن اللغم الذي انفجر به بتر ساقه الأيمن، وأصابه بجروح أخرى في مناطق متفرقة من جسده. كان المكان الذي انفجر فيه اللغم ضمن المناطق التي انسحب منها مقاتلو أنصار الله (الحوثيين) في ديسمبر 2017. توفي سالم على الفور، مخلفاً وراءه أربعة أطفال (ولد وثلاث بنات) لم تتجاوز الكبرى سنّ التسع سنوات. وقد تسبب مقتله بحالة خوف وهلع لدى بقية الأهالي، الذين تركوا مزارعهم عرضة للجفاف والتصحر، خشية وجود ألغام فيها أو في الطريق إليها”.

لم يكن الأطفال بمعزل عن انتهاكات جماعة أنصار الله (الحوثيين) في شبوة؛ الطفل عبدالباري حسن (15 سنة) تعرض للاعتقال التعسفي لما يقارب ثمانية أشهر. تم اعتقاله في منتصف يوليو/ تموز 2017، في نقطة تفتيش تابعة لأنصار الله (الحوثيين) عند مدخل مديرية بيحان. وفي السطور التالية، يروي الطفل عبدالباري قصة اعتقاله وتعذيبه:

“في الساعة 11:00 صباحاً كنت عائداً من محافظة مأرب، حيث تقيم عائلتي بعد دخول الحوثيين إلى بيحان. وصلت الى نقطة موقس، وهي نقطة تابعة للحوثيين يتم فيها تفتيش الداخلين إلى بيحان. تم إيقافي من قبل جنود النقطة. كان عددهم تقريباً أربعة ويرتدون ملابس مدنية. أخبروني بأني مطلوب للتحقيق وأخذوني إلى إدارة أمن بيحان، وأدخلوني السجن. كان سجناً قديماً مبني من الحجر والطين، وفيه تقريباً 10 سجناء من أهالي المديرية. لم يُسمح لأحد بزيارتنا للسجن، وتحدث معي مشرف الحوثيين ببيحان بأني سأخرج من السجن قريباً، لكن بعد عشرة أيام، تم نقلي إلى محافظة ذمار مع مجموعة من السجناء. تحركنا من بيحان بعد المغرب عبر طريق عقبة القنذع والسوادية ورداع، حتى وصلنا إلى ذمار، حيث أدخلونا سجناً في إدارة المرور خلف جامعة ذمار. كان السجن ضيقاً وفيه عدد كبير من السجناء. تعرضنا لتعذيب نفسي وجسدي، حيث كان السجانون يرشونا بالماء البارد رغم برودة الشتاء، وأحياناً يخبرون السجين بأن والدته أو والده توفيا. وإذا أردنا الاتصال بأهلنا، يجبرونا على فتح السماعة الخارجية. كانوا يدخلونا انفرادياً إلى غرفة صغيرة بلا ضوء ولا تهوية لمدة نصف يوم، ويسمّون تلك الغرفة بالضغّاطة. لقد أجبرونا أيضاً على تسجيل مقاطع فيديو نقرأ فيها كلاماً يكتبونه لنا مسبقاً لإدانتنا”.

أفرج عن الطفل عبدالباري في مارس/ أذار 2018، في عملية تبادل أسرى ومعتقلين بين طرفي النزاع الرئيسيين: أنصار الله (الحوثيون) والقوات الموالية للرئيس هادي.

وقع محسن الفاشي مع آخرين من مقاتلي أنصار الله (الحوثيين) في أسر القوات الموالية لهادي في 5 يناير/ كانون الثاني 2018. بعد انتهاء معركة وادي خير ببيحان حيث تم أسرهم، اقتيد الأسرى إلى السجن المركزي في المديرية. خلال بقائه في سجن بيحان، تعرض الفاشي للتعذيب ضرباً بالعصي والأسلاك المعدنية وآلات حادة- حسب إفادته. “نُضرب أحياناً إذا طلبنا أي شيء من البقالة، وأحياناً نُضرب بدون سبب.”

وبناء على توثيق “مواطنة” لوقائع انتهاكات، فقد ارتكبت “قوات النخبة الشبوانية” انتهاكات بحق مدنيين.

ذات يوم من شهر مارس/ أذار 2017، خرج (راشد 20 سنة) من الكوخ الخشبي الذي تسكنه عائلته ضمن تجمع سكاني للمهمشين في مدينة عتق. رغم أنه يعاني من تخلف ذهني، تمكن والده من توظيفه ضمن عمال النظافة في المدينة. قبيل الظهر توجه راشد كعادته، لشراء القات من السوق، ثم التعريج على أقرب مكان يمكن أن يتسول فيه بقايا طعام لغدائه. في ذلك اليوم، عرّج على إدارة البحث الجنائي بعتق، ليجمع بقايا طعام الجنود. ولأنه يعاني من ضعف الإدراك والفهم، اشتبه به الجنود وتم احتجازه.

في المساء، لم يعد إلى البيت كعادته، فخرج والده للبحث عنه. بحث في المستشفيات، وأبلغ عمليات الأمن باختفاء ولده المعاق ذهنياً، لكنه لم يجد له أثراً. عاد إلى بيته قبيل منتصف الليل، خائباً وقلقاً. ثم فكّر بالاتصال بأحد معارفه من ضباط البحث الجنائي. يقول أبو راشد: “أخبرني الضابط بأنه سيجري بعض الاتصالات للبحث عنه، وبعد ساعة، أخبرني بأن ابني محتجز في سجن البحث الجنائي. في الصباح، ذهبت إلى هناك واستلمته من إدارة البحث، وتفاجأت بالكدمات وآثار الضرب على ظهره. ضربوه بأسلاك الكهرباء وعصي خشبية، فذهبت لتقديم شكوى في إدارة أمن المحافظة، لكنهم لم يتجاوبوا معي. نحن مهمشون وليس لدينا قبيلة أو سلطة تدافع عنا”.

في واقعة أخرى، داهمت قوة مكونة من حوالى 80 جندياً يتبعون “النخبة الشبوانية”، قرية نوخان التابعة لمديرية عتق، في مهمة لاعتقال مدرّس. وصلت القوة عند الساعة الـ2:00 فجراً، وأطفأ الجنود الإنارة الخارجية للمنازل وحاصروا منزل المواطن عبدالله السدلة من كل الجهات. يقول السدلة عما حدث في تلك الليلة: “ناداني أحد الجنود وطلب مني النزول إليهم ففعلت. قال لي الضابط إنه يريد اعتقال ابني سامي، فقلت لهم إنه مدرّس ويشتغل في بقالة لتوفير مصاريف زوجته وطفلته. طلبت منه الانتظار إلى الصباح وسوف يحضر إلى مقرهم في عتق، لكنه رفض، وأطلق أحد الجنود رصاصة في الهواء مهدداً باقتحام البيت. نزل سامي بملابس النوم، وتم تكتيفه وإدخاله في مدرعة عسكرية، ثم انطلقوا به إلى جهة غير معلومة”.

تعيش أسرة السدلة في قلق دائم على مصير ابنها، فيما تابع والده القول: “ابني مدرس وخطيب جامع ولديه دكان مواد غذائية. لم يحدث أن غاب عن البيت، وطفلته بحاجة لرعايته، وطلابه في المدرسة ينتظرون عودته. لقد تم اعتقاله بناءً على معلومات غير صحيحة”.

رغم أن بعض انتهاكات “النخبة الشبوانية” بحق المدنيين تأخذ أحياناً منحىً هزلياً، إلا أن التعسف والتعذيب ما يلبث أن يحوّلها إلى مآسي تفخخ مستقبل سكان المحافظة. قصة اعتقال مواطن وتعذيبه بتهمة “عدم تسديد فاتورة المياه” مثال على ذلك. والأخطر من ذلك، اعتقال شاب على خلفية شجاره مع أحد أفراد “النخبة الشبوانية”، وتعذيبه لمدة ثلاثة أيام حتى الموت.