كعادته كل صباح، يخرج قاسم يحيى (اسم مستعار- 42 سنة)، عند الساعة السادسة والنصف صباحًا من منزله الكائن في إحدى حارات مدينة إب إلى مدرسته الأهلية، التي أسّسها بالشراكة مع أحد أصدقائه في العام 2012.
وبعد انتهاء طابور الصباح واطمئنانه بتواجد كل المدرسين والطلاب، يعود إلى منزله لتناول وجبة الإفطار مع زوجته، ومِن ثَمّ يعود إلى المدرسة ويبقى فيها حتى ينتهي الدوام الرسمي ويغادر جميع المدرسين وكل الطلاب والطالبات، فيغادر هو الآخر.
لدى قاسم ثلاثة أطفال؛ أكبرهم ابنة تبلغ من العمر 17سنة، وأصغرهم تبلغ من العمر 9 سنوات.
في يوم السبت 19مارس/ آذار 2016، غادر قاسم المدرسة بعد انتهاء طابور الصباح، وعاد إلى منزله لتناول وجبة الإفطار مع زوجته التي تنتظره، وعقب انتهائه من ذلك، غادر بيته في طريقه إلى مدرسته، لكن لا أحد من الطلاب أو هيئة التدريس رآه بعد ذلك.
استغرب غيابَه شقيقُه عيبان (اسم مستعار)، الذي كان يعمل هو الآخر في المدرسة، فخرج إلى المنزل لتفقده، وعند وصوله وجد ياسمين وأمها فسألهما عنه، فردت زوجة أخيه: "لقد خرج إلى المدرسة". فأخبرها أنه قادم من المدرسة، ولم يكن هناك.
شعر عيبان بالحيرة وتملكه الخوف والقلق على شقيقه الأكبر، فانهالت الأسئلة على رأسه: "يا ترى أين ذهب؟ هل هو بخير؟ لماذا لم يتصل كعادته ويبلغنا بأن لديه عمل خارج المدرسة؟ هل من الممكن أن يكون قد ذهب إلى القرية لزيارة أمه؟".
وحين لم يجد عيبان إجابة لكل هذه الأسئلة، قرر البدء في البحث عن شقيقه. شرع بالتواصل مع أصدقاء قاسم المقربين، بعد إجراء اتصال لأمه التي قالت إنه لم يزُرْها، وأنها لم ترَه منذ مساء الجمعة عندما غادرا معًا منزل والدهما في القرية، حيث تعوّد قاسم زيارةَ أمه صباح كل خميس، يظل هناك حتى مساء يوم الجمعة، ويعود إلى منزله.
سيطر القلق والخوف على عيبان أكثر، حيث تواصل مع جميع أصدقاء قاسم، لكنهم أكّدوا عدم رؤيتهم له منذ أيام. داهمَ الغَمُّ عقلَ عيبان، فقاسم هو من قام بتربيته ورعايته؛ إذ يكبره بأربعة أعوم، ورعاية شقيقاته أيضًا، وحاول بكل صعوبة التغلب على هذه الأفكار، بأن شقيقه سيعود قريبًا.
بعد أسبوعين من اختفاء قاسم واستنفاد عيبان كل الاحتمالات القريبة التي كان يعتقد أنها ستؤدي إلى معرفة مصير شقيقه، قرر توسيع عملية البحث، فقام بالتواصل مع بعض أقاربهم القريبين من جماعة أنصار الله (الحوثيين) في مركز محافظة إب ليطلب منهم بذل مساعيهم هم أيضًا.
وبعد شهر من اختفائه، أبلغهم أحد أقاربهم أنّ قاسمًا معتقلٌ في سجن الأمن السياسي في محافظة إب، وإن حالته الصحية جيدة وطلب منهم ألا يقلقوا، ومع ذلك لم يُسمح لأشقائه بزيارته، وسُمِحَ فقط لأمه وزوجته بثلاث زيارات خلال الثلاثة الأشهر الأولى لاحتجازه.
بعدها سُمح لأشقائه وأطفاله بزيارته مرة كل أسبوعين. وبعد انقضاء خمسة أشهر، سُمح لعائلة قاسم بزيارته مرة كل أسبوع، وهكذا استمر الحال مدةً تزيد على عامين، كان أشقاؤه خلالها يكتفون بزيارته لسؤاله عن صحته وعن احتياجاته اليومية.
ومع كل ذلك، لم تعثر العائلة الخائفة، على مبرر واحد لمعرفة أسباب اعتقال معيلها، ولا عن الظروف الكاملة لاحتجازه، فسعت إلى إطلاق سراحه بالتواصل مع أقارب منخرطين في جماعة أنصار الله (الحوثيين) أو على علاقة بهم، لكنهم كانوا يطمئنونهم بأنه سيتم الإفراج عنه قريبًا، وأنه مجرد وقت وسيكون طليقًا وسطهم.
انتظرت العائلة المكلومة، حتى تم إبلاغهم عن طريق أحد أصدقائهم الذي كان له قريب في (الأمن السياسي) في إب، أنّ قريبه أخبره بنقل قاسم إلى أحد سجون جماعة أنصار الله (الحوثيين) في محافظة ذمار في يوليو/ حزيران 2019.
مضت أيام، اتصل بعدها قاسم من رقم مجهول بأحد أقاربه، وطلب منه إرسال مصاريف، وأكد له أنه في سجن في مدينة ذمار، وعندما حاول معرفة في أي مكان هو مسجون بالضبط، رد عليه قاسم: "في ذمار وبس".
وفي أغسطس/ آب 2019، أجرى قاسم مكالمة هاتفية أخرى مع قريب له، وطلب منه إرسال مصاريف وملابس، وأخبر قريبه أن عليه إنزالها بنفسه إلى مدينة تعز، حيث نقلته جماعة أنصارالله (الحوثيين) من ذمار إلى سجن الصالح (شمال مدينة تعز).
نزل القريب في اليوم ذاته الذي أُجرِيَت فيه المكالمة، وهناك طلب من ساجنيه السماح له بزيارة قاسم، لكن لم يُسمح له بالزيارة، وطلبوا منه الانتظار حتى يوم الغد، حيث تكون الزيارة مسموحة، فقام بتسليم الملابس لإدارة المحتجز، بينما أبقى النقود معه، وأثناء مغادرته تمكن من رؤية قاسم في إحدى غرف الدور الرابع. كان يلوح له بيديه.
قرر قريب قاسم المكوث في تعز حتى صباح اليوم التالي حتى يتمكن من زيارته، وعند الساعة العاشرة مساءً تلقى اتصالًا من الرقم الذي اتصل منهُ قاسم أبلغه أنه تم نقل الأخير من محتجز الصالح إلى مكان احتجاز آخر لا يعرفه.
أسبوع إضافي من هذا الاختفاء القسري الجديد لقاسم، اتصل لقريبه وأخبره أن سجانيه قاموا بنقله إلى أحد سجون جماعة أنصار الله (الحوثيين) في محافظة ذمار، وطلب منه إرسال مصاريف له عبر شركة الكريمي للصرافة باسم شخص مجهول، وبالفعل تم إرسال ما طلبه، وبعد سبعة أيام أخرى اتصل قاسم وطلب إرسال مصاريف باسم نفس الشخص وبذات الطريقة، ثم انقطعت بعد ذلك أخباره.
وفي يوم الأحد الأول من سبتمبر/ أيلول 2019، تفاجأت عائلة قاسم بأن اسمه موجود ضمن كشوفات القتلى الذين سقطوا جراء الهجمة الجوية التي نفذها طيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات، يوم السبت 31 أغسطس/ آب، واستهدفت بها مبنى كلية المجتمع في محافظة ذمار، الذي كانت تستخدمه جماعة أنصارالله (الحوثيين) مكانًا للاحتجاز.
وبالرغم من أنّ الخبر الصاعق لم يصلهم من قبل جماعة أنصارالله (الحوثيين) بشكل رسمي، فإنهم وأثناء قيامهم بزيارة مستشفيات محافظة ذمار ليتأكدوا من الأمر، لم يجدوا أي أثر لجثة قاسم، أو حتى معلومات تؤكد الأخبار التي تم نقلها لهم. وبعد عشرين يومًا من البحث المتواصل بلا فائدة، عادوا خالِي الوفاض من أي شيء.
وحتى نشر هذه المدونة، لا تزال عائلة قاسم تترقب أي أخبار عن معيلها، أو يأتي اليوم الذي يعود فيه ويطرق باب منزله لتفتحه له طفلته.