حكى لنا الحاج محمد كيف علق يوم الجمعة الرابع من سبتمبر/ أيلول 2020، على حدود مأرب خلف نقطة (باب الفلج) التي تسيطر عليها قوات تابعة للحكومة المعترف بها دوليًا، لم يسمحوا له بالعبور إلى صنعاء بعد أن جاء مسافرًا من حضرموت عائدًا من زيارة ابن أخيه الذي يعمل هناك ليطمئن عليه...
لمتاعب السفر داخل اليمن قصص لا تنتهي؛ الحاج محمد صاحب الـ50 سنة من عمره ليس الأول ولا الأخير ممن ذاقوا الأمرّين في طرقات اليمنيين التي قطعت أوصالها أطراف النزاع.
حكى لنا الحاج محمد كيف علق يوم الجمعة الرابع من سبتمبر/ أيلول 2020، على حدود مأرب خلف نقطة “باب الفلج”، التي تسيطر عليها قوات تابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا؛ لم يسمحوا له بالعبور إلى صنعاء بعد أن جاء مسافرًا من حضرموت عائدًا من زيارة ابن أخيه الذي يعمل هناك ليطمئن عليه.
في البداية، لم يوضح له العسكر الذين يحرسون تلك النقطة سبب منعه، حتى سمع من أحد الركاب أن هناك اشتباكات بين القوات الحكومية ومسلحي جماعة أنصارالله (الحوثيين)، وأن الخط غير آمن للعبور، والطريق مقطوعة على الجميع.
انتظر الحاج محمد يومَي الجمعة والسبت لعل الطريق تفتح أمام العابرين، ويستطيع أن يواصل طريقه إلى صنعاء مع سائق الحافلة الذي دفع له قيمة الراكب من حضرموت إلى صنعاء مبلغ 15 ألف ريال؛ أي ما يعادل (25/ 16) دولارًا.
كان الحاج محمد حائرًا؛ فهو لا يملك إلا مبلغًا زهيدًا يكفيه أيامًا معدودة، حتى أشرقت شمس الأحد وقد ضاق الحال به وأوشكت نقوده على النفاد، فقرر ركوب سيارة (هيلوكس) بمبلغ 15 ألف ريال مرة أخرى من مأرب إلى صنعاء. كنت معه على السيارة نفسها، وقد تلقينا وعدًا من السائق أنه سوف يوصلنا إلى صنعاء عبر طريق صحراوية رملية تمر بمحافظة الجوف التي تأتي على حدود مأرب وصنعاء.
الطريق هناك مقبرة حقيقية للسيارات بكل ما تعنيه الكلمة، كانت الرمال الغزيرة تملأ العين، واللون الأصفر هو لون المشهد الحارق هناك. لم تكن الشمس أرحم من الحرب نفسها، فقد كدنا نشتوي من شدة الحرارة.
كنا نسير بسرعة عالية؛ لأن السرعات البطيئة سوف تجعل السيارة تعلق ولن نستطيع المواصلة. وبينما نحن في منتصف المسافة، إذا بنا نرى مشهدًا فضيعًا وكارثيًّا لن ينسى من ذاكرتنا نحن المسافرين. كانت السيارات والحافلات والقاطرات وأيضًا السيارات الصغيرة عالقة بين الرمال كأنها جثث من الضحايا مرمية حول المكان.
كنا نسير قابضين على قلوبنا خوفَ أن نعلق بجانبهم، حيث لا وجود لشبكات اتصال أو إنترنت ولا أي علامة تدل على مكان وجودنا في تلك الصحراء الغابرة، ولا نملك إلا المراهنة على قدر من الرحمة في قلب أحدهم يمر بجانبنا فتجبره نخوته أن يساعدنا، فننجو معًا أو يكون مصيره الغرق في بحر الرمال بجانبنا.
كنا قد أشفقنا على إحدى المركبات (نوع هيلوكس)، كان سائقها قد انطلق معنا ورأيناه يقع أمامنا في فخ الرمال. لم نستطع أن ندير ظهرنا له. توقف سائق (الهيلوكس) الذي يقودنا ليساعده بعد أن ابتعدنا إلى منطقة شبه آمنة من الرمال.
لم تكن (الهيلوكس) لتخرج من الرمال، فقد كانت الصحراء أخطر مما تصورناه، كنا 21 شخصًا، ركابًا للعربتين نحاول بكل طاقتنا أن ندفع السيارة خارج الرمال الغزيرة أو أن نرفعها لتتحرك بعيدًا من منطقة الخطر.
كنا ندفعها مسافة 40 سنتيمتر فقط لتقع في نفس المشكلة. حاولنا مرارًا وتكرارًا، وقبل كل محاولة كنا نحفر الرمل تحت عجلات السيارة؛ علّ هذا الحفر يخفف من التصاق السيارة بالأرض، وبعد أن أصابنا التعب تلفتنا حولنا وإذا بسيارة من نوع (فيتارا) عالقة بالقرب منا، وقد نادانا إليها سائقها مستغيثًا بنا، فذهبنا لنساعده. عندما سألناه منذ متى وأنت عالق؟ أجاب بصوت غاضب ومستنجد: “من أمس الصبح عالق بدون ماء”.
أحضرنا له ماء من الذي لدينا وشددنا همتنا لنساعده، لكن لم يكن حظه أفضل، حاولنا بكل طاقاتنا، ولكن لم تسعفنا سيارته المهترئة في ذلك. تركناه وهو يشكو لربه سوء وضعه، ورحلنا عنه دون أن نستطيع مساعدته.
عدنا إلى السيارة الأخرى التي كانت مسافرة معنا لنعاود الكرة، نحفر تحت عجلات السيارة الأربع علّ مأزقنا يتخفف. وفي إحدى المرات التي كان فيها الحاج محمد يحفر في الرمال معنا، إذ بهاتفه يسقط من جيبه دون أن ينتبه له أحد، أو يشعر به. واصل الحفر والتنقل من عجلة إلى أخرى، حتى جاءنا الفرج بعد 45 دقيقة، استطعنا فيها بعد عناء إنقاذ السيارة من الصحراء.
استمرينا بالسفر حوالي ثماني ساعات، حتى وصلنا صنعاء. كان الجميع سعيدًا بالوصول رغم أنه كانت قد تغيرت بشرتنا من أشعة الشمس، وجوهنا غبراء ورؤوسنا كأنها غرس في التراب، لم أكن أفضل منهم رغم أني كنت داخل السيارة مع أربعة آخرين والبقية على سطحها.
وعندما أتى وقت الحساب، كنا قد اتفقنا مع السائق أن يدفع المسافر 15 ألف ريال يمني. قام بتخليص حسابه من الجميع، وعندما جاء دور الحاج محمد إذ بصوت صاحب السيارة يرتفع ويصرخ أنه لن يقبل قيمة الإيجار التي تحصّلها من الحاج محمد.
اقتربت لأعرف أكثر، وإذ بالسائق يعاتب الحاج محمد ويطلب منه أن يدفع أجرته بنقود من العملة القديمة وليٍس من الجديدة. ولما حاول الحاج محمد أن يوضح له أنه ركب من مأرب حيث يتم تداول هذه النسخ من النقود، رد عليه السائق:
“أنت الآن في صنعاء ولم تدفع لي إلا في صنعاء. لن أقبل منك هذه العملة، وإذا أصريت أن تدفع لي بها فأني سوف أضيف 25% فارق الصرف، أي يجب أن تدفع 20 ألف ريال”.
تفاجأ الحاج محمد من كلام الرجل وأخبره أن نقوده لن تكفيه، حتى يستطيع أن يتواصل بأهله بعد أن فقد هاتفه وهو يساعد السيارة في الخروج من الرمل.
كان مشهدًا نزعت منه الإنسانية والرحمة. الحاج محمد الذي يجسّد المواطن العاجز، ليس أمامه من خيار، والسائق الذي أصبح فجأة عدائيًّا غير متفهّم، ولا يعرف إلا حسابه بدون نقصان.
بعد نقاش، استسلم الحاج محمد للموقف وأخرج مبلغ خمسة آلاف، إضافي ليوفي حسابه. وطلب طلبًا بسيطًا من السائق. طلب منه مبلغ 500 ريال يمني (أقل من دولار) من العملة القديمة، حتى يستطيع التنقل بين الأرجاء ليصل إلى أحد أقاربه. وفي لحظة غفلت فيها عن الموقف كان الحاج محمد قد اختفى من ناظري.
هذه هي الحرب وقد زاد جبروتها على الناس وتركتهم ضعفاء في مواجهة قسوتها، وأصبحت كل تفاصيل حياة اليمنيين، بما فيها السفر داخل بلدهم، قطعة من جمر.