يبذر الحوثيون الأرض ألغاماً، كبَذر مزارعي القرية حبوب الذرة

"أحيانًا كنت أتوقف فجأة، ليس لأستريح، لم أكن أشعر بالتعب ، وإنما لأنه كان يتراءى لي بأن هناك جدار يقف أمامي وأني سأصطدم به إذا واصلت التقدم"..

June 25, 2022

هاني أحمد

يبدو بأنه ليس ثمة خاتمة قريبة لرواية الوجع اليمني. فكلما طويت صفحة قاتمة وجدنا أنفسنا أمام صفحة أقتم، وكلما ظننا أنّنا بلَغنا نقطة النهاية، يتضح لنا بأنها ليست إلا بداية لفصل جديد من المآسي والآلام.

في السادسة صباحًا، ككل يوم، يستيقظ الطفلان نادر -اسم مستعار- (13 سنة)، وابن عمته جميل -اسم مستعار- (15 سنة)، من النوم. يتناولان وجبة الفطور ثم يقودان قطيع أغنامهما إلى وادي الضيعة، عزلة بني منصور، مديرية بعدان- محافظة إب، لترعى العشب والشجيرات الصغيرة التي تنمو بكثرة هناك.

ومع حلول الظهيرة، واشتداد حرارة الشمس، يعود الطفلان للراحة وتناول الغداء، قبل أن يسوقا قطيعهما، من جديد، إلى المرعى مع خبو أشعة الشمس.

في عصر يوم الإثنين 23 يونيو/ حزيران 2021، عند الساعة 4:00 مساءً، وكانت الشمس قد هدأت، قاد جميل قطيع أغنامه ثانية، من منزل والديه، قاصدًا المرعى.

كان نادر، ابن خاله، الذي يصغره بعامين، هو الآخر قد أخرج الأغنام من المنزل، ووقف في أطراف الطريق منتظرًا مثل كل يوم.

التقى الطفلان، وقادا قطيعهما صوب وادي الضيعة، دون أن يخطر في بال أحدهما أنه بعد قليل فقط، وفي غفلة منهما، سيجدان نفسيهما وقد تبادلا الأدوار مع القطيع الذي سيقودهما إلى كمينٍ محكم ومصير دامٍ.

على تخوم هذا الوادي، المِخْضَوضر بزروع الذرة السميكة والشعير وسيقان البطاطا، ينتصب جبل عدانة الذي شهد بسبب موقعه الاستراتيجي معارك محتدمة بين القوات الحكومية المعترف بها دوليًّا وجماعة أنصار الله (الحوثيين). قبل أن تتقدم جماعة “أنصار الله” باتجاه منطقة الفاخر، مديرية قعطبة- محافظة الضالع، ويبذرون في باطنه الألغام، كبذر أبناء القرية لحبوب الذرة.

وصل الطفلان نادر وجميل مع قطيعهما إلى الوادي. توزعت الأغنام على الأرض العشبية. بدا كل شيء هادئًا واعتياديًّا، لكن ذلك تغير عندما غادرت بضع أغنام القطيع، وشرعت بتسلق جبل عدانة.

إذا كانت الحرائق تبدأ من شرارة بالمصادفة أو عن طريق الخطأ، فإن مأساة الطفلين جميل ونادر -وإن اكتنفها لحظة سهو وغفلة- ليست وليدة للمصادفة ولم تنجم عن سوء طالع أحدهما، بل تفجرت عن عمد وقصدية مُبيتة.

ما حدث بعد ذلك ترويه والدة الطفل جميل:

كانت الساعة حوالي الخامسة مساءً، عندما خرجتُ من المنزل وجلستُ عند عتبة الباب. شعورٌ مفاجئ فجّر في داخلي القلق، ودفعني إلى الخروج.

شاهدت الأغنام تصعد جبل عدانة، كان ولدي جميل ونادر ابن أخي، يركضان في إثرها محاولَين اللحاق بها وإعادتها إلى الوادي.

ينقبض قلبي أكثر فأكثر؛ لأنهُ قبل عام ونصف انفجر لغم بقطيع أغنامٍ في هذا الجبل. عندما أصبح جميل ونادر على مقربة منها، دوّى صوت انفجار مهول“.

يبعد جبل عدانة عن منزل والدة الضحية حوالي ٩٥٠ مترًا، ويعتبر الجبل وقرية الضيعة التي يقع في محيطها، موقعين استراتيجيين؛ كونهما من المناطق الحدودية بين محافظة إب ومحافظة الضالع.

تشرح الأمّ:

“سمعت صوت الانفجار، وفي الهواء، حيث كان يقف طفلاي، رأيت سحابةً كثيفةً من الأتربة والدخان تتصاعد نحو الأعلى. شعرت، حينها، أن صدري انشقّ وأنّ روحي غادرته وامتزجت بالتراب والدخان المتطاير في الهواء والذي غطى المكان.

أخذتُ أركض، بلا وعي، وبلا هدى، ناحية الجبل. كان جسمي يرتجف، وبين حين وآخر، وكلما فكرت باحتمال أنهما قد يكونا توفيا، كانت ركبتاي تخوران، وأقع على الأرض، و…”.

تنفستْ والدة الضحية بعمق، مرة، مرتين، وثلاث، بدا وكأنها تحاول دفع شيءٍ عالقٍ في حنجرتها، أن تدفعه نحو أعماقها بغية دفنه هناك والتخلص منه.  

“أحيانًا كنت أتوقف فجأة، ليس لأستريح، لم  أكن أشعر بالتعب ، وإنما لأنه كان يتراءى لي بأن هناك جدار يقف أمامي وأني سأصطدم به إذا واصلت التقدم.

هذا الجدار لم يكن إلا خوفي من أن أصل فأجدهما ميتين، وأن تنطبع صورتهما تلك في ذاكرتي إلى الأبد بحيث لا أعود أراهما إلا على تلك الصورة: غارقين في الدم. والبارود والغبار يغطي جثتيهما المرميتين على الأرض”.

توقفت نبيلة -اسم مستعار- (٤٥ سنة)، عن الكلام، لتفسح المجال للدموع والنشيج المكتوم في صدرها.

لم أستغرب ذلك منها، إذ إنه منذ أن بدأت الحديث عما حدث لولدها وابن أخيها، لاحظت، كلما تقدمت في الحديث، تناميًا في مقدار الحشرجات في صوتها.

وطيلة ما كانت تروي لي ما جرى، لاحظتُ أنّ عينيها الشاخصتين إلى البعيد، نحو نقطة لا يراها أحد سواها، في سديم ما حدث، كانتا تلمعان بفعل حزن عميق، لكنه رغم ما حصل، كان حزنًا نبيلًا ومكابرًا.

هرع بعض أهالي قرية الضيعة إلى مكان الانفجار. كانت رائحة البارود المختلطة برائحة الدم والتراب تملأ المكان. وهناك على الأرض، إلى جوار أشلاء الأغنام، كان جسدا جميل صالح ونادر، ملقيَين دونما حراك والدماء تغطيهما.

“على إثر الانفجار خرجت وزوجتي من البيت لمعرفة سبب الانفجار ومكانه”، يقول والد نادر.

كان أهالي القرية يركضون ناحية الجبل، رجالًا ونساء، من مختلف الأعمار، أطفالًا ومسنّين. كانوا يهرولون وأعينهم مثبتة على سحابة الدخان والغبار التي ما تزال مرتفعة في الهواء.

كان ماراثونَ فزعٍ مفتوحًا تداعى الجميع إليه، بمن فيهم والدا الطفل نادر.

“عندما وصلنا إلى أسفل الجبل، وشممنا رائحة الدم التي حملتها الرياح نحونا، أدركنا أن كارثة قد حلت. ولكن السؤال الذي تملّكنا لحظتها وهصر قلوبنا كان: على من يا ترى؟

عرفتُ الإجابة بعد دقيقتين فقط. لقد حلت الكارثة عليّ وعلى أختي. ليس علينا فقط بل وعلى عائلتنا”.

“محمولَين على الأكتاف، والدماء تغطيهما، نُقل الطفلان جميل ونادر إلى المستشفى. كانا بلا حراك، وغارقين بالدم، دماء متيبسة، وأخرى استمرت في التدفق رغم كل محاولاتنا لإيقاف النزيف”، قال أحد الشهود.

استمر النزيف حتى بعد أن وصلوا بهما إلى المستشفى. كانت جراحهما خطيرة واحتمالات بقائهما على قيد الحياة ضئيلة، في ظل الإمكانات الشحيحة لمستوصف العجل في سوق الليل مديرية السبرة.

يقول خالد، والد الضحية نادر: “بمجرد أن رأوا حالتيهما رفض كادر المستوصف استقبالهما، ولم يقوموا بأدنى محاولة لإيقاف النزيف”.

في سباق محتدم مع الموت، جرى نقل الطفلين، جميل ونادر، إلى هيئة مستشفى الثورة العام في مدينة إب، الذي يبعد عن مكان الواقعة حوالي 45 كيلو مترًا، وهناك في قسم الطوارئ تلقوا أخيرًا الإسعافات الأولية.

“أخبرني الطبيب المناوب في هيئة الثورة أن بضع دقائق فقط هي ما كانت تفصل بينهما وبين الموت جراء النزيف. لقد نزفا دماء كثيرة حتى إن كل واحد منهما تلقى خمس قرب دم”، يقول خالد.

خضع جميل في هيئة مستشفى الثورة، لعمليتين؛ الأولى استكشافية، والثانية لرتق ثقبين في المعدة تسببت بهما شظايا اللغم، لكن أضرار الشظايا لم تقتصر على الثقبين، إذ تعرضت رجلاه لكسور عدة، إلا أن سوء حالته، وعدم تحمل جسده للتخدير لمدة طويلة، دفع الأطباء إلى تثبيت تلك الكسور خارجيًّا.

ظل جميل في مستشفى الثورة، فالأطباء يخشون أن يتعرض لعدوى فيروسية أو بكتيرية، إلى أن تكفل أحد مزوّدي الخدمات الإنسانية عصر يوم الخميس الأول من يوليو/ تموز، بنقله إلى مستشفى البرج التخصصي لاستكمال مراحل علاجه.

كان الحال مختلفًا مع الطفل نادر الذي تداخلت فيه إصاباته المتعددة والخطيرة مع الحالة المادية المدقعة لأسرته، لتضعنا أمام مأساة مركبة.

كان نادر قد تلقى، إلى جانب ابن عمته، الإسعافات الأولية في هيئة مستشفى الثورة، لكن الأطباء هناك أعلنوا استحالة تطبيب كسوره وجراحه؛ نظرًا لخطورتها ولافتقار المستشفى للكادر المتخصص، على ضوء ذلك تم إحالته إلى مستشفى أطباء المنار الخاص.

إضافة إلى كسر في عظمة الساق ونزيف في عينه اليسرى وتمزق بأعصاب فخذه الأيسر، أصيب نادر بعدة شظايا في الدماغ، من ضمنها شظية كبيرة في الفص الجبهي الأيمن.

أكّد أطباء المنار فور اطلاعهم على ملف نادر الطبي، على ضرورة أن يخضع فورًا لعملية جراحية لاستخراج الشظايا من دماغه، إذ إنّ تحرُّك إحداها ينذر بتدهور حالته الصحية أكثر، وربما إصابته بإعاقة.

على الرغم من هذا، فقد امتنع المستشفى عن إجراء العملية؛ نظرًا لعدم قدرة عائلة الضحية على تحمل تكاليفها البالغة تسع مئة ألف ريال.

يعمل والد نادر، عاملًا بأجر يومي لا يتجاوز ٣٠٠٠ ريال، ويُعيل بهذا المبلغ الزهيد أسرة مكونة من ثمانية أفراد.

بعد تدخل فاعل خير وسداده لجزء من رسوم العملية، أُدخِلَ الطفل نادر أخيرًا إلى غرفة العمليات، استُخرِجَت الشظايا بنجاح، لكن نادر وقع في غيبوبة أُدخِل على إثرها إلى العناية المركزة.

من غيبوبة دامت أربعة أيام، إلى سلسلة عمليات لتثبيت الكسور وإعادة ربط الأعصاب الممزقة، ما يزال الطفل نادر يخضع لرحلة علاج غير معروفة الأمد.

يترافق ذلك كله مع ظروف مادية صعبة للعائلة، وعجز عن سداد تكاليف العلاج، التي بلغت حتى الآن مليوني ريال.

عندما زرت نادرًا في الثالث من يوليو/ تموز 2021، في مستشفى أطباء المنار، أخبرني والده بأنه مستغرق في النوم منذ ساعة، قررت إرجاء الزيارة إلى وقت آخر كي لا أزعجه، لكن والده دعاني إلى الدخول مؤكدًا لي بأنه لا بأس: “لا، لن يستيقظ”.

أظنُّ بأنّي، من فرط ما كنت حريصًا على ألّا أصدر صوتًا قد يقلق نومه، كتمتُ أنفاسي وسرتُ على رؤوس أصابعي.

اقتربتُ منه، ولمّا صرت على بُعد بضع خطوات من سريره، استيقظ فجأة.

كان يلهث كمن يصعد جبلًا، وكانت عينه اليسرى دامية ومنكمشة كأنها تحمي ما تبقى بها من ضوء، من شظية ما تزال تندفع في جبل الشؤم، جبل عُدانة.

 

تُخلف الألغام مآسيَ كثيرة. بعض تلك المآسي تنعكس في جسد الضحية ويمكن أن تُرى بالعين المجردة، لكن أكثرها سوءًا وألمًا، هي تلك التي لا تُرى؛ كالخوف الذي يسيطر على الضحية ويلازمه، ربما إلى الأبد.