أربع سنوات وزيارة واحدة
قَدِمَت أم المُحتجز معاذ (37 سنة) من قرية الصلو جنوب محافظة تعز، إلى صنعاء في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 لتطلب زيارة ابنها المُحتجز في سجن الأمن والمخابرات التابع لجماعة أنصارالله (الحوثيين) بعد ظهوره على قناة المسيرة على انه أسير.
تَواصَلتْ بمحامية مواطنة لحقوق الإنسان، قبل قدومها إلى صنعاء، فتم ضرب موعد معها للقاء إحدى المحاميات، لتقوم بتقديم الدعم والمساندة القانونية، وعندما حضرت إلى المنظمة، وكالعادة، تم إعطائها بطاقة زائرة في البوابة، في إجراء روتيني يتم اعتماده مع جميع الضيوف والزوار. سألت: ما هذا؟ فقيل لها، بطاقة زائرة.
بمجرد أن سمعت المرأة كلمة زائرة، أُصيبت بالهلع، من أنها لا تود زيارة ابنها خشية من أتراه بالهيئة نفسها التي رأته فيها المرة السابقة. لاحظ موظفي الاستقبال ذلك. بعد ذلك تولت المحامية التي استقبلتها شرح سوء الفهم هذا، من أن وظيفة مواطنة هي الوقوف مع كل ضحايا الحرب ومساندتهم، ولا تعني هذه البطاقة أنك ستزورين ابنك، وإنما إجراء مقابلة لمعرفة المزيد من ملابسات القضية، للشروع بالعمل عليها.
كانت الأم، مكلومة بفقدانها لولدها. ساعة ونصف قضتها مع المحامية، ودموع عينيها لا تكاد تتوقف، يرافق ذلك رغبة في الفضفضة والحديث. كان واضحًا عليها أنها لا تنام ليلها، ولا نهارها. تصمت قليلًا، لتشرد في ذكريات وجود ابنها معها حرًا طليقًا.
ومعاذ شاب كان يعيش في القرية رفقة زوجته ووالدته وابناءه الثلاثة، كأي يمني، يحصل على قوت يومه من عمله كفران للقرية. بيته المتواضع لم يكتمل من بنائه، فلا سقف يحميهم ولا ضوء لينير عتمه، لكن الأهم من كل ذلك كان وجوده في وسط عائلته، وخصوصًا أطفاله، الذي لم يكمل أكبرهم الرابعة عشر، والذي طلب من جدته ألا تعود من صنعاء إلا برفقة والده.
تصف أم معاذ حال أبنائه حاليًا، بأنه يبكي العدو، وبالكاد يستطيعون أن يوفروا لقمة عيشهم، منذ زجّ جهاز الأمن والمخابرات في صنعاء والدهم في محتجزه، قبل أربعة أعوام، وبالتحديد بعد ثمانية أشهر من احتجازه في شهر إبريل/ نيسان 2020 ولم تتمكن والدته من زيارته إلا مرة واحدة. تم جلبه حينها إلى مكان ما في حي السبعين، بواسطة سيارة مُعكّسة النوافذ، بعد اختفاءه قسريًا، لمدة ثلاث سنوات.
سُمح- حينها- لوالدته البقاء معه مدة عشر دقائق، أجهش خلالها بالبكاء لمجرد أن لامس أحضان والدته، لكنه لم يستطع أن يقف على قدميه. كان يستغيث بها لتخليصه منهم، قائلًا: كيف ستفعلين بي يا أماه. كان العجز هو السائد، أمام التعنت الذي عليه سجانيه، والحيرة أمام الأسباب التي على أساسها تم احتجاز واخفاء فلذة كبدها.
قَهَرها حاله وهيئته. كان هزيلًا عمّا كان عليه في السابق، والإرهاق والإعياء واضحان عليه. وعندما سألته عن سبب تردي صحته، أخبرها أنه قام باستئصال انتفاخ في كتفه، لربما كان ورمًا.
وسبق لمعاذ أن أجرى في أوقات سابقة عمليتين جراحيتين، أحدهما لاستئصال الزائدة الدودية، وأخرى في الأمعاء. وكان يحصل على العناية من وجوده مع والدته وزوجته، لطالما كان في أوقات أخرى مصدر إلهام وقوة لهم، فكيف هو حاله الآن في المحتجز؟ هل يعاني من مضاعفات، هل يحصل على العلاج اللازم والمناسب لحالته؟
كل تلك الأسئلة تدور في رأس أم معاذ، وتقلق منامها. كانت تعرف أن معاذ انتقائي، ولا يختار من الطعام إلا ما يناسبه ويناسب حالته المرضية، ولا يشتهي أي نوع منه. ما الطعام المتوفر له الآن؟ مع ذلك، أدركت في الزيارة الأولى له أنه لا يأكل إلا القليل من الطعام. هيئته وشحوب وجهه ينبآن بذلك.
كانت عشر دقائق، خاطفة كالسهم، إذ أخبرها السجّان أن موعد زيارتها انتهت. تشبثت بولدها، وأبقت نفسها ممسكة بكتفه. طلبت من الجنود أن يأخذوها رهينة ويطلقوا سراح ابنها، فضحكوا، غير متيقنين من جدية طلبها. وبالرغم من إدراكها أنه تم إعادة ابنها إلى المُحتجز، دَرجتْ الأم على الذهاب إلى منطقة السبعين، لتبقى في المكان الذي التقت فيه ولدها. تبقى هناك لدقائق، ثم تعود إلى ألمها وقهرها، وبالها الذي لا يهدأ والمنشدة إليه.
في سفرها الأخير من قريتها، تأمل أم معاذ بأن تحظى بزيارة أخرى، برغم معرفتها أنها ستشكل ألمًا جديدًا لها. لم تعد تحتمل حتى الزيارة. كل ما تأمله هو أن يتم إطلاق سراحه، وأن تصادفه في طريقها ذات يوم عائدًا إلى منزله، حرًا.
عندما طلبت المحامية من أم معاذ، أن تعطيها هوية ولدها، لتلتقط صورها لها وتستخدمها في المناصرة والدعم القانوني، أخرجتها من حقيبتها، لكنها لم ترجعها سريعًا، وإنما بقت تتأمل في الصورة الملصقة عليها، وكأنها تراها لأول مرة، وعيونها تذرف الدمع، فهل من سبيل لإنهاء معاناة هذه الأم، ومثلها الكثير؟!