على الرغم من الظروف الصعبة للغاية في بلد مزقته الحرب وتقلصت فيه مساحة النشاط، ظلت "مواطنة" لحقوق الإنسان ثابتة في مهمتها للدفاع عن حقوق الإنسان. ولأن المنظمة تدرك الفشل للمجتمع المدني، فقد بذل قادة وموظفو "مواطنة" جهوداً متجددة لتحقيق أعلى المعايير المهنية.
في أوائل العام 2011، في أعقاب موجة الاحتجاجات التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك في تونس ومصر، أطلق الشباب اليمني ثورة في شهر شباط/ فبراير من العام 2011، ضد نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح. أقيمت الاحتجاجات في ساحة عامة في العاصمة صنعاء، عرفت فيما بعد باسم ساحة التغيير نسبة لمطالب الشباب. كان صالح قد حكم الجمهورية العربية اليمنية منذ العام 1978، واستمر في منصبه كرئيس بعد توحيد الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في العام 1990. قام العديد من الأشخاص من مختلف الخلفيات، بما في ذلك الطلاب والأكاديميين والكتاب والفنانين والمزارعين والعمال وأفراد القبائل بالاحتجاج بشكل سلمي، من أجل العدالة الاجتماعية. اختبرت ثورة العام 2011 فعالية المجتمع المدني لقيادة التحول الذي طالب به الناس. من وجهة نظري، كممارس في مجال حقوق الإنسان عمل في العديد من المنظمات المحلية والدولية منذ العام 2008، فشل المجتمع المدني اليمني في تحقيق مطالب المجتمع وتطلعاته، بسبب عوامل سياسية واجتماعية وجغرافية-سياسية مهمة كانت موجودة منذ وقت طويل قبل الثورة.
وفقاً لإحصائيات البنك الدولي، بلغ عدد المنظمات غير الحكومية المسجلة رسمياً في اليمن قبل العام 2011، حوالى 7000 منظمة. بحلول العام 2014، ارتفع هذا العدد ليضم أكثر من 8300 منظمة. وعلى الرغم من هيمنة المجتمع المدني الظاهرية، فشلت هذه المنظمات في إحداث تغيير بطريقة تلبي تطلعات الناس. بدلاً من ذلك، استفادت الأحزاب السياسية المعارضة، المعروفة بشكل جماعي كتكتل اللقاء المشترك (JMP)، من فشل المجتمع المدني هذا بتحويل الثورة من انتفاضة شعبية إلى نزاع سياسي بين أحزابها ونظام صالح. في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، تم التوقيع على مبادرة مجلس التعاون الخليجي في الرياض، المملكة العربية السعودية، والتي مهدت الطريق لنائب الرئيس آنذاك عبدربه منصور هادي (الرئيس الحالي) للتفاوض مع المعارضة على نقل السلطة، في مقابل ضمانة حصانة صالح من المقاضاة.
تتحمل المنظمات المحلية غير الحكومية جزء كبير من مسؤولية فشل المجتمع المدني في تنظيم وتسخير طاقة الثوار الشباب. قبل العام 2011، أنشأت الأحزاب السياسية منظمات غير حكومية طغت على قدرة منظمات المجتمع المدني المستقلة على تعزيز سياسات العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان المبدئية في المرحلة الانتقالية. أنشأت أحزاب المعارضة على وجه الخصوص، منظمات غير حكومية في ظل نظام صالح، للعمل كأشد المعارضين للنظام. رغم ذلك، ومع وصول الائتلاف المعارض السابق، المعروف بتكتل اللقاء المشترك إلى السلطة، بدأت المنظمات غير الحكومية الحزبية التي تم تمكينها في مجال المجتمع المدني، بالعمل بالنيابة عن الرئيس الجديد هادي.
كما أعاقت القضايا القديمة الأخرى، بما في ذلك الافتقار إلى التخطيط الاستراتيجي والقدرة على إدارة أموال الجهات المانحة ومصالحها، قدرة المجتمع المدني على توحيد المصالح الاجتماعية والطموحات وتعزيزها خلال ثورة العام 2011. ﻋﻟﯽ ﺳﺑﯾل اﻟﻣﺛﺎل، ﺑﺳﺑب زﯾﺎدة اﻟﻣﻌوﻧﺔ اﻟﺧﺎرﺟﯾﺔ ﻟدﻋم اﻻﻧﺗﻘﺎل اﻟﺳﯾﺎﺳﻲ ﻓﻲ أﻋﻘﺎب ﻣﺑﺎدرة دول ﻣﺟﻟس اﻟﺗﻌﺎون اﻟﺧﻟﯾﺟﻲ، ﺷرﻋت اﻟﻌدﯾد ﻣن اﻟﻣﻧظﻣﺎت ﻏﯾر اﻟﺣﮐوﻣﯾﺔ ﻓﻲ تنفيذ أﻧﺷطﺔ ﻣرﺗﺑطﺔ ﺑﺎﻟﺗﺣول اﻟﺳﯾﺎﺳﻲ ﻋﻟﯽ اﻟرﻏم ﻣن اﻧﻌدام اﻟﺗﺣﺿﯾر أو اﻟﺧﺑرة ﻓﻲ هذا اﻟﻣﺟﺎل. أثارت هذه التجارب مسألة عرضية حول ما إذا كانت المساعدات الخارجية تتسبب بضرر أكثر مما تقدم النفع في اليمن.
من 18 آذار/ مارس 2013 إلى 24 كانون الثاني/ يناير 2014، انعقد مؤتمر الحوار الوطني لتعزيز الانتقال السلمي للسلطة. ومع ذلك، فقد تم تهميش المجتمع المدني والجمهور العام بشكل منتظم في هذه العملية. كان من المفترض أن يتم تنفيذ “النقاط العشرين”، التي أدرجت مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك المظالم الناتجة عن النزاعات المسلحة السابقة، وقضايا المعتقلين، وخطاب الكراهية. قامت بصياغة هذه القضايا لجنة من أعضاء المجتمع المدني وخبراء آخرين، كجزء من مؤتمر الحوار الوطني، بيد أن مختلف الجهات السياسية الفاعلة، بما في ذلك الرئيس هادي والمجتمع الدولي، تجاهلت الدعوات إلى دمج النقاط العشرين في العملية الانتقالية. وبدلاً من ذلك، مضت هذه الجهات قدماً بمؤتمر الحوار الوطني، من دون دمج النقاط.
بينما كان مؤتمر الحوار الوطني ينعقد في فندق الموفنبيك (Mövenpick Hotel) في صنعاء، بدأت جماعة أنصار الله ، المعروفة باسم الحوثيين، في توسيع نطاق تأثيرها العسكري في اتجاه العاصمة. كان الحوثيون- وهم جماعة شيعية بدأت كحركة لاهوتية في ثمانينات القرن الماضي، لإحياء “الزيدية”، وهي مذهب من الإسلام الشيعي- على مر تاريخ اليمن المعاصر، على خلاف مع الرئيس علي عبدالله صالح. يعزى هذا الخلاف أساسًا، إلى نظرتهم عن دعم الرئيس صالح للسياسة الخارجية الأمريكية. أدى ذلك إلى اندلاع ست جولات من النزاع المسلح بين الحوثيين والجيش اليمني، امتدت من العام 2004 إلى العام 2010، وأدت في نهاية المطاف إلى انتفاضتهم الحالية. من الواضح أن عملية مؤتمر الحوار الوطني كانت بعيدة كل البعد عن الواقع على الأرض. استمرت الاشتباكات على إثر التوسع العسكري للحوثيين، وفي نهاية المطاف، انهار الانتقال السياسي في اليمن. دخلت البلاد في حلقة جديدة من النزاع المسلح عندما سيطر الحوثيون والقوات الموالية للرئيس السابق صالح بالقوة على السلطة في صنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014.
أرغم الحوثيون الرئيس هادي على الإقامة الجبرية في يناير/ كانون الثاني 2015. هرب هادي بعد شهر من ذلك إلى مدينة عدن، جنوب اليمن. وفي 25 مارس/ آذار 2015، هرب الرئيس إلى الرياض، في المملكة العربية السعودية. في ذلك الوقت، كانت قوات الحوثي- صالح قد تقدمت بالفعل نحو تعز، ثالث أكبر مدينة في البلاد وتقع في الجنوب الغربي، في مسيرتها إلى مدينة عدن الساحلية الجنوبية. في صباح يوم الخميس 26 آذار/ مارس 2015، أطلقت المملكة العربية السعودية حملة عسكرية تضمنت تحالفاً يتألف من تسع دول عربية ضد قوات الحوثي- صالح.
آثار زمن الحرب على المجتمع المدني:
نتيجة للحرب التي بدأت فعلياً في أيلول/ سبتمبر 2014، ومازالت مستمرة، تقلصت المساحة العامة للمنظمات غير الحكومية والكيانات الإعلامية والنشاط السياسي، بشكل تدريجي. شن الحوثيون حملة واسعة ضد المعارضين والكيانات التي لا تشاركهم خطابهم. على سبيل المثال، أغلقوا عدداً من المنظمات المحلية، لاسيما تلك التابعة للأحزاب السياسية المعارضة. وعلاوة على ذلك، تعرض الصحفيون والصحافة لحملات تشهير واعتداءات من جانب جميع أطراف النزاع. وبالإضافة إلى ذلك، ارتكبت كافة أطراف النزاع، بما في ذلك، التحالف الذي تقوده السعودية وقوات حكومة هادي من جهة، وقوات الحوثي- صالح من جهة أخرى، الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري ضد قادة ونشطاء مدنيين وسياسيين.
في الوقت الحالي، عدد المنظمات النشطة صغير جدًا مقارنة بعدد المنظمات المسجلة. اضطرت معظم المنظمات المحلية النشطة إلى تحويل تركيزها إلى المساعدات الطارئة والإنسانية.
تم تسجيل “مواطنة لحقوق الإنسان”، وهي منظمة يمنية مستقلة لحقوق الإنسان، رسمياً في شهر نيسان/ أبريل من العام 2013. على الرغم من تأسيس المنظمة في العام 2007 (باسم “منتدى حوار”)، إلا أن نظام صالح لم يمنحها تصريحاً بسبب انتقادات “منتدى حوار” للحكومة، سيما خلال حروب صعدة (ست حروب بين عامي 2004 و2010)،والحملات الأمنية والعسكرية ضد الحراك الجنوبي في العام 2007.
نظراً لسعي “مواطنة” الأساسي لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة من قبل جميع أطراف النزاع، فقد تم استهداف المنظمة بالتهديد والاعتقال وحملات التشهير. يعمل موظفو “مواطنة” في ظل ظروف صعبة بشكل يومي، سواء في المكتب الرئيسي في صنعاء أو في الميدان. في الواقع، احتجزت أطراف النزاع المختلفة بعض الموظفين الميدانيين في مناطق مختلفة من البلاد. ولم يتم الإفراج عن العديد منهم إلا بعد قيام إدارة “مواطنة”، إلى جانب المنظمات الشريكة الرائدة، مثل منظمة العفو الدولية (Amnesty International) ومنظمة هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch)، بممارسة ضغوط على قادة الجماعات المسلحة. علاوة على ذلك، تلقى العديد من الموظفين تهديدات شخصية عبر رسائل نصية أو مكالمات هاتفية.
في 4 آذار/ مارس 2016، صادر الحوثيون جواز سفر عبدالرشيد الفقيه، المدير التنفيذي لـ”مواطنة”، في مطار صنعاء الدولي لدى وصوله من عمان، الأردن. كان الفقيه عائداً بعد أن حضر مؤتمراً دولياً للتضامن مع الصحفيين اليمنيين، نظمه الاتحاد الدولي لحماية الصحفيين، ونقابة الصحفيين اليمنيين، ومنظمات دولية أخرى.
وفي 14 حزيران/ يونيو 2018، تم احتجاز الفقيه لنحو 10 ساعات في حاجز باب الفلج الأمني، في محافظة مأرب، التي تسيطر عليها قوات الرئيس هادي. بعد أربعة أيام فقط، في 18 حزيران/ يونيو 2018، صادرت قوات التحالف بقيادة السعودية وسلطات مطار سيئون في محافظة حضرموت، جوازي سفر رضية المتوكل، رئيسة “مواطنة”، والفقيه. كما احتجزتهما فيما بعد، أثناء سفرهما في رحلة عمل تضمنت التحضيرات لحلقة تدريبية بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وكان الفقيه مسافراً أيضاً، للخضوع لعلاج طبي. بعد ممارسة ضغوط محلية ودولية مكثفة، تم إطلاق سراحهما بعد مرور 12 ساعة على احتجازهما.
كفاح “مواطنة” من أجل حقوق الإنسان في مساحة مدنية متقلصة وممزقة بالحرب:
على الرغم من الظروف الصعبة للغاية في بلد مزقته الحرب وتقلصت فيه مساحة النشاط، ظلت “مواطنة” لحقوق الإنسان ثابتة في مهمتها للدفاع عن حقوق الإنسان. ولأن المنظمة تدرك الفشل للمجتمع المدني، فقد بذل قادة وموظفو “مواطنة” جهوداً متجددة لتحقيق أعلى المعايير المهنية. وعلى الرغم من تعرض المنظمة لتهديدات واعتداءات من جميع أطراف النزاع، فإن التزامها مكّنها من مواصلة الكفاح من أجل المدنيين.
في آذار/ مارس 2015، عندما بدأ النزاع المسلح في اليمن يتصاعد، كانت “مواطنة” تتألف من سبعة أعضاء فقط؛ والآن، في العام 2018، توسعت المنظمة لتضم حوالى 70 موظفاً بدوام كامل، موزعين على 20 محافظة من محافظات اليمن البالغ عددها 22 محافظة. لدى المنظمة ثلاث وحدات أساسية هي: وحدة الأبحاث ووحدة الدعم القانوني ووحدة الإعلام والاتصالات. في السنوات الأخيرة، ركزت وحدة الأبحاث على توثيق أنماط انتهاكات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، التي ارتكبتها جميع الأطراف في الحرب، بينما تركز وحدة الدعم القانوني على إجراءات الخدمة المباشرة لضحايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب. وقد غامر موظفو “مواطنة” وتخطوا صنعاء ليتوجهوا إلى جميع المناطق بجرأة، لزيارة مراكز الاحتجاز والمستشفيات والضحايا وأسرهم وشهود العيان، من أجل لفت انتباه العالم إلى حرب كارثية ومميتة للغاية، والسعي لتحقيق العدالة.
أجرت “مواطنة” تغييرات خاصة في عملياتها الاستراتيجية واليومية، من أجل تفادي المشاكل النموذجية التي تواجهها المنظمات غير الحكومية المحلية. على سبيل المثال، أنشأت “مواطنة” وحدات دعم وفرق إدارة أخرى للتركيز على المسائل الإدارية والمالية. لا يمتلك هؤلاء الموظفون بالضرورة، خبرة في مجال حقوق الإنسان، لكن خبرتهم المهنية في الإدارة وإدارة الموارد، عززت بشكل كبير عمل الباحثين. وتركز وحدة المشاريع المنشأة حديثاً على جمع الأموال والحفاظ على العلاقات مع الجهات المانحة والشركاء المحليين والدوليين، لتأمين التمويل والدعم المالي لأنشطة المنظمة. وقد مكنت الولاية المحددة لكل وحدة من وجود هيكلية تنظيمية متماسكة تعزز استدامة العمل.
علاوة على ذلك، تم الاعتراف بـ”مواطنة” دوليًا نتيجة لعملها. على سبيل المثال، في 30 أيار/ مايو 2017، قدمت “مواطنة” إحاطة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عن الأوضاع في اليمن، وكانت أول منظمة يمنية محلية تخاطب هذه الهيئة. وفي الإحاطة، وصفت المتوكل الوضع على الأرض، وحددت مطالب مهمة تتعلق بالحالة الإنسانية وحالة حقوق الإنسان، مع التركيز على بعض انتهاكات الحرب الواسعة النطاق للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.
لا توجد وصفة سحرية في قوة “مواطنة” الخاصة. فجهودها أتت كنتيجة لقرارات متضافرة وإستراتيجية، بشأن كيفية العمل بفعالية في مساحة تكاد تكون غير موجودة للمجتمع المدني. إن استقلال المنظمة والتزامها بالدقة والتقيد بالمبادئ المنصوص عليها في مدونة قواعد سلوكها، قد مكنتها من مواصلة العمل ذي الأثر الكبير؛ ليس من أجل تدعيم مجتمع مدني ضعيف فحسب، بل أيضاً لجعل الأطراف المتنازعة مسؤولة عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان.
* أسامة الفقيه هومدير وحدة الإعلام والاتصال والمناصرة وكان المدير السابق لوحدة البحث في المنظمة غير الحكومية اليمنية، مواطنة لحقوق الإنسان. مُنحت “مواطنة” مؤخراً وسام بالدوين للحرية من قبل منظمة حقوق الإنسان أولاً (Human Rights First).