لو سألني أحدهم قبل هذه التجربة عن الشعور الذي يلتهمني إن عشت تحت قصف جوي، لأجبت بأنه الخوف. بينما في أيامي تلك لم يكن الخوف هو «الوحش»، بل المهانة، الشعور بالذل هو العنوان الكبير الذي تندرج تحته كل الأحاسيس الأخرى.
صوت الرصاص ليس نشازًا في سيمفونية صنعاء. اعتدنا سماعه في أي وقت، لا سيما في الليل. إذ يرى اليمنيون إطلاقه من طقوس الاحتفال، إضافة إلى أن اشتباكات 2011 ما زالت في الذاكرة، حين التهمت الكلاب جثث القتلى في حي الحصبة لأنهم لم يجدوا من يشيعهم إلى رقدتهم الأخيرة، وما زال أثر الرصاص في بعض المباني بشارع هايل، ماثلًا كجُدري غائر على وجه وسيم.
غير أن ما يحدث في اليمن، منذ أواخر 2014، لا يشبه أي شيء آخر.
سبتمبر 2014 – 25 مارس 2015
استولى الحوثيون بمساعدة القوات المؤيدة لعلي عبد الله صالح على صنعاء في 21 سبتمبر 2014، وبدأنا نرى شعارهم ينمو ببطء كاللبلاب السام على المباني واللوحات العامة، وعلى إشارات المرور وبراميل «الجولات» (دوارات صغيرة تتمركز في تقاطعات الشوارع في معظم المدن اليمنية)، شعار يتكون من الأخضر والأبيض والأحمر، يؤكدون فيه أن «الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام».
رغم أننا، مَن نزلنا ضد حكم الرئيس الراحل علي عبد الله صالح في 2011، اعتدنا الشعار في ساحات الاعتصام آنذاك، فإن رؤيته فوق خيمة حوثية رثة يختلف تمامًا عندما يكون ملصوقًا فوق سور وزارة الداخلية أو باب اليمن أو سور جامعة صنعاء.
انتهى 2014، ودخل العام الجديد محتقنًا وثقيلًا، ثم تسلسلت أحداث جسيمة لو رأيتها في السينما لاتهمت الفيلم بالركاكة والحبكة متعددة الفجوات: يقدم رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي استقالته، ثم يضعه الحوثيون تحت الإقامة الجبرية، وفي لحظات لا نعرف كيف جرى التحضير لها يهرب الرئيس من مقر إقامته في صنعاء ليظهر في عدن، ومنها يهرب مرة أخرى إلى السعودية.
قبل ذلك، تغادر البعثات الدبلوماسية صنعاء، الواحدة تلو الأخرى، لكننا قلنا إنه «دلع أجانب»، ولن يمر شهر حتى يعودوا إلى مواقعهم. لقد اعتاد اليمنيون على الاقتتال منذ زمن لا يعرف بدايته، وما هي إلا أيام أو شهور، وتتدخل دولة شقيقة مع دولة شقية وهوب: اتفاق سلام يستمر عدة سنوات تكفي لننغمس مرة أخرى في حياتنا التي كنا نحاول أن نحياها رغم النائبات.
صحيح أن الحرب الأهلية التي اندلعت بعد ثورة سبتمبر في 1962، استمرت سبع سنوات. لكن ظروف ذلك الاقتتال لم تعد متوفرة في يمن اليوم. كان الأمل يحركنا حتى ونحن نشم نسائم صنعاء العليلة التي اختلطت برائحة البارود بعد أن أحرق جنود المارينز أسلحتهم، وحتى بعد أن تسرب لنا أن بعض السفارات أتلفت (لا تخلصت من) معداتها التقنية تمامًا، في إشارة واضحة إلى عدم العودة.
يجتاح الحوثيون عدن، ويتقاتلون مع مؤيدي الرئيس هادي والجيش الوطني، وما يسمى «المقاومة». نتواصل مع أهالينا وأصدقائنا هناك، فلا ردود سوى بكاء مكتوم وهمهمات غير مفهومة وطلبات بالمسامحة والعفو مع كثير من «لا أحد يعلم متى تحين ساعته».
فيلم لم يشاهَد، واجتماع لم يُعقد
الساعة 2:20 تقريبًا من صباح الخميس 26 مارس 2015، كنت في حجرتي أفكر في اجتماعي مع منظمة نرويجية بعد بضع ساعات، وشقيقتي في غرفتها التي يفصلني عنها جدار واحد تستعد لمشاهدة فيلم ما، ثم هبط ذلك الصوت الذي أيقظ صنعاء كلها دون مبالغة.
في ثوانٍ كان الناس يتساءلون في الرسائل ووسائل التواصل الاجتماعي، عن مصدر الانفجار المهول الذي يشبه صرخة الغيلان كما يصورها خيالي. جاءت الأخبار متضاربة، ولأن الكهرباء مفصولة، لم نستطع مشاهدة التلفاز، حتى وصلت إلينا صورة من شاشة قناة «الحدث» الإخبارية تزف ما لم يخطر على بال: تطلق «عاصفة الحزم» بقيادة السعودية، أولى عملياتها العسكرية ضد الحوثيين في اليمن.
ضربتان أو ثلاث، كنا نتوقع من قوتها وصوتها الوقح أنها في بيت الجيران، ثم اتضح أنها تبعد عنا عشرات الكيلومترات.
م نستطع النوم، ولم نستطع الاستيقاظ أيضًا. ساعات عائمة وسمجة، ثم تصل رسالة إلى بريدي الخاص بالعمل من مديرة المنظمة الأمريكية، تخبرنا بأننا في إجازة حتى إشعار آخر، وأن هناك طائرة للأمم المتحدة ستقل الطاقم الأجنبي من زملائنا إلى أقرب مكتب للمنظمة في إحدى الدول الإفريقية مؤقتًا.
أول أيام الحفرة
كان صباح صنعاء أكثر برودة من المعتاد، قضيته أتابع الأخبار في صمت كأن لم يكن لي صوت قبل ذلك. وبدا يوم أمس، اليوم السابق للقصف، نائيًا وبعيدًا كشجرة مانغروف على شاطئ جزيرة فلبينية.
نزلت لشراء بعض حاجيات الغداء. إذ كنت مصرة على ممارسة يوم عادي حتى لو افتتحناه بالفاجعة. تناولنا طعامًا وصل إلى جوفنا بنكهة التراب، وجلسنا في الانتظار.
في الظهيرة، وصلت إلينا صور ضحايا أول قصف على صنعاء، والذي كان من نصيب منطقة بني حوات شرق المطار.
كان عددهم نحو 67 شخصًا. تأملت الصور بعينين لا تريان: أطفال ورجال ونساء تناثرت أشلاؤهم على الوسائد والسجاجيد وبقايا الجدران التي سقطت عليهم وهم نائمون فجمدتهم على ذات الهيئة، غير أن جثة واحدة سحبت كل اهتمامي.
امرأة عشرينية لم يظهر منها سوى جذعها، وقد طُمر نصفها الثاني تحت الأنقاض. ترتدي ملابس أرجوانية، ولها وجه يمني ناعم وبشرة بيضاء صافية (كعادة الصنعانيات) وأنف مستقيم، وقد مال عنقها الثلجي جانبًا بانحناءة غريبة لم أرها سوى في أفلام الرعب التي تحكي قصص النساء الممسوسات اللاتي تتسلى الشياطين بكسر أعنقاهن. نعم، الشيء الذي يستطيع لي عنق امرأة بهذه الطريقة لا بد من أن يكون شيطانًا.
كانت تلك أول ليلة أقيم فيها داخل الحفرة، حفرة مظلمة ما زالت جوانبها ساخنةً لأنها حُفرت للتو، حفرة سحبتني إلى جوفها مع أول يوم أعيش فيه تحت القصف.
في أيامي تلك لم يكن الخوف هو «الوحش»، بل المهانة، الشعور بالذل هو العنوان الكبير الذي تندرج تحته كل الأحاسيس الأخرى.
الانفجارات التالية كانت نحو السادسة مساءً. هرعنا إلى الدور الأرضي امتثالًا لإجراءات السلامة التي وصلت إلينا على واتساب. هناك تسكن أسرة سورية تتكون من أم وبناتها الأربعة، كن يعشن سعيدات في حي دمشقي جميل، لكنهن خرجن، مثل ملايين السوريين، هربًا من جحيم الحرب التي لحقتهم إلى صنعاء.
كنا نمكث عندهن معظم أوقات اليوم واجمات، ملتحفات بأغطية سميكة تفوح منها رائحة النظافة، وأقداح الشاي الأسود تدور مع صحون زجاجية تحمل أحجامًا مختلفة من بسكويت محلي الصنع، وبين القصف والقصف تروي الفتيات لنا حكايات مروعة عن تفاصيل الموت السوري.
حكين عن جارهن الذي اقتادوه في الظلام، وكيف لم يستطعن فتح باب الشقة لاستطلاع الأمر رغم صرخاته التي أدمت جدران البناية. وعن الملثمين الذين رموا بشيء ثقيل في حاوية الحي ليكتشفوا صباحًا أنه جثة رجل بفجوتين داميتين بدلًا من عينيه. كانت الفتيات أكثر شجاعة منا، ولم يكنَّ يهلعن كثيرًا (يا للعجب) من أصوات القصف المخيفة.
اقترحت علينا قريبة لنا أن نذهب إلى قريتها، فهي أكثر أمانًا من أقدار صنعاء. وكلما سمعتنا جارتنا السورية نتحدث عن النزوح صوب القرية تقول لنا: «لح تاخدونا معكم وين مارحتوا، وما لح تتركونا. ما هيك؟». فنرد عليها بالإيجاب. لا يمكن أن نترككن تجرِّبن الغربة مضاعفة. هكذا كنا نقول، لكننا تركناهن للأسف ولم نف بالوعد. لا شيء أكثر هشاشة من الوعود التي تبرمها في زمن الحرب.
بعد مرور يومين بدأنا نشحذ حواسنا. وأعني أننا استطعنا سماع صوت الطائرة من مسافة بعيدة وهي تعدو نحونا مثل «أناكوندا» ضخمة وشرهة. المدة لا تتجاوز 15 ثانية، وهو وقت كافٍ للاختباء. كنا سبع نساء وثلاثة أطفال في شقة أسفل الدرج، في قلب مدينة أزلية تتنازعها عشرات الأيدي النتنة، وفي دواخلنا تتدحرج الخيالات المعتلة حول ما تتعرض له النساء الوحيدات في حروب الرجال/الوحوش.
لو سألني أحدهم قبل هذه التجربة عن الشعور الذي يلتهمني إن عشت تحت قصف جوي، لأجبت بأنه الخوف. بينما في أيامي تلك لم يكن الخوف هو «الوحش»، بل المهانة، الشعور بالذل هو العنوان الكبير الذي تندرج تحته كل الأحاسيس الأخرى. كنا نركض بسرعة ونحن نلملم ما تطاله أيدينا من وثائق وأطعمة ووسائد نحو بيت الجيران. نبكي بدموع تأبى الهطول. نتحلق ونتشبث بأجساد بعضنا، وندعو الله أن ينجينا من الميتة التي لا نستحقها.
كان الوقت، حتى الذي يخلو من أصوات الطيران وقصف الصواريخ، أثقل من جبل عيبان. كنت أشعر بملمس الثواني، ثانية وراء ثانية، على جلدي كعقارب وليدة، رغم أن الإحساس بالزمن لم يكن يتغير، سواء الفجر أو الضحى أو بعد منتصف الليل، فإن الشعور يشبه فترة ما بعد نوم العصر الذي لا بد من أن تستيقظ منه متعسر المزاج، بصداع فظيع وحلق ناشف.
كنا مزروعات أمام شاشة التلفاز، متوقعات خبر إيقاف القصف في أي وقت. وما زلت أذكر ذلك المحلل السياسي، مصري الجنسية، الذي قال إنه يتوقع انتهاء الحرب بعد أسبوعين فقط أو شهر على الأكثر، وكم تشاءمنا من ذلك الرأي. إذ كيف نستطيع تحمُّل ذلك الجزع شهرًا كاملًا؟ لم نكن نعرف أنها ستكون حربًا طويلةً ومفتوحةً وثقيلةً.
الغريب أن النشرات الإخبارية كانت خالية من جثث الضحايا الذين نعرف تمام المعرفة أنهم ماتوا تحت قصف تحالف «عاصفة الحزم». أتنقل من قناة إلى قناة إلى قناة، لكن النتيجة واحدة: الأخبار نظيفة تمامًا من جثث قصف صنعاء وصعدة وعمران وغيرها، حتى ضحايا آلة القتل الحوثية كانت تظهر على استحياء في هذه النشرة أو تلك. عرفت وقتها أن هناك شيئًا ما ينقص الجثة اليمنية حتى تصبح لائقة بعناوين الأخبار الرئيسية لـ«تنافس» جثث الشرق والغرب.
أين ذهب «الشعب» يا صنعاء؟ شوارع فارغة كفم رضيع، قد ترى شخصًا أو اثنين أو ثلاثة يمرون على عجل وكأنهم يتحاشون وابلًا من مطر.
في الليل لم يكن في حوزتي سوى مهمة واحدة: التحديق في سقف الحجرة الذي تحول إلى شاشة أرى فيها صور المباني المحترقة، وخبر إطلاق عاصفة الحزم كما أعلنته قناة «الحدث»، والجثة ذات العنق الثلجي، وسؤالًا يتردد: متى يقع هذا السقف فوقي؟
في النهار أحاول التماسك. يجب أن تتماسك من أجل من حولك، تتظاهر بأنك قوي، وبأنك عصي، وأن لونك المخطوف ليس بسبب التكهنات المنثورة في الأخبار ومنشورات المحللين وتغريدات أصحاب الحل والعقد، وأن انتفاخ عينيك ليس بسبب بكائك الحارق طوال الليل. إن معظم الدول العشرة التي تشارك في «عاصفة الحزم» ترزح تحت ديكتاتوريات عتيدة، إنهم لم يرأفوا بشعوبهم، فما صنيعهم بنا إذًا؟
في 28 مارس، تواصل معي الكاتب إسكندر حبش لكتابة موضوع عن موقف المثقفين اليمنيين من «عاصفة الحزم» للنشر في «السفير» اللبنانية، فوافقت، وتواصلت مع عدد من الكتاب والشعراء والروائيين الذين كانت تربطني مع معظمهم علاقات جيدة جدًّا، واستطعت إنجاز العمل في خمسة أيام تقريبًا وأنا أستمع، تحت كمية هائلة من الملابس، إلى المطرب الإنجليزي «بلاك» يشدو «It’s a Wonderful, Wonderful Life». كنت أكررها مرة بعد مرة حتى صدقتها فعلًا.
كتابة ذلك الموضوع كان فكرة جيدة لأتشتت قليلًا عن التركيز في جدران الحفرة، ولأقول بعد 20 عامًا (لو نجوت من هذه الحرب) أني كتبته وأنا تحت قصف الأشقاء بطائرات أمريكية وبريطانية وفرنسية حديثة الصنع، وأني كنت في بلاد تقضم منها العصابة الحوثية كل يوم قطعةً أكبر وأثمن من أختها.
في نفس اليوم، وصل إلينا بريد آخر من مديرة المنظمة بأن علينا استئناف العمل (لا أدري ما الجدوى من تنفيذ المهمات الإدارية في بلد مليء بالفجائع)، ويجب علينا أيضًا أن نرسل رسالة واتساب إلى المدير الممثل في الثامنة صباحًا من كل يوم نخبره بأننا بخير.
كان الذهاب إلى مقر عملي في اليوم العادي يستغرق 20 دقيقةً. في ذلك اليوم، وجدت نفسي أمام بوابة المنظمة ذات اللون الأحمر القاني (دم الغزال باللهجة اليمنية) بعد سبع دقائق. ابتسمت في مرارة وأنا أتذكر خالد زكي في فيلم «طباخ الريس» وهو يستفسر من الوزير: «وديتوا الشعب فين يا حازم؟».
أين ذهب «الشعب» يا صنعاء؟ شوارع فارغة كفم رضيع، قد ترى شخصًا أو اثنين أو ثلاثة يمرون على عجل وكأنهم يتحاشون وابلًا من مطر. تجنبت إطالة النظر في الأماكن التي ألفتها في شارع حدة: مطعم خان الخليلي، المنصور للكباب، كان يا ما كان لبيع الأفلام، مفروشات البيت السعيد، باسكن روبنز في زاويته التي لي فيها وحولها ذكريات أكثر مما يجب، المنعطف الذي يؤدي إلى منزل صديقتي الأثيرة.
تحاشيت أيضًا الالتفات إلى ما يمتد أمامي من الشارع، حيث المشاوير العامرة التي اعتدتها مع مشغِّل أغانٍ يصدح بألف لحن.
ذهبت ساعات العمل ونحن نتناقش عن مصير زملائنا في عدن. ستة أشخاص لم نعرف عنهم شيئًا منذ أن احتلها الحوثيون، هناك فقط «فتافيت» من المعلومات تضر أكثر مما تفيد: آخر مرة شوهد فلان وهو يشتري خبزًا من الفرَّان، وآخر مرة شوهدت فلانة وهي تعبر الشارع مع والدتها المسنة. أما فلانة، فقد هربت من فيلتها البيضاء بعد أن استوطنت بوابتها تلك الدبابة المخيفة.
لم يستطع أحد الخروج من بيته ليطمئن على الآخرين لأن قذائف الحوثيين كانت بالمرصاد. وظل أهالي عدن يأكلون البصل والبسكويت والثوم والخبر المتيبس أيامًا لعدم قدرتهم على الخروج، وعندما ترأف بنا الشبكة لنتصل مع أهالينا في عدن أو الحديدة أو تعز، فالهواتف إما مغلقة وإما من يرد لا يسعفه صوته ليقول إجابةً ذا نفع.
يجب أن نتصرف مثل «عيال الحرب» من الآن فصاعدًا، أن نرتب أهم الأغراض في حقيبة سهلة الحمل في حال فُرِضت علينا مغادرة صنعاء.
وما كان هناك شيء يفوق بشاعة الضربات الجوية سوى أبواب الدكاكين المغلقة في حيِّنا بعد أن كانت عامرة بالزبائن والبضائع والضحكات، ومشهد الجيران من البنايات المجاورة وهم يحملون أغراضهم القليلة فوق سيارة «بيجوت»، كما يسميها اليمنيون، تنقلهم إلى اللامعلوم هربًا من الموت القادم نحونا بتؤدة. أحداث كتلك كانت جديرة بإطفائي تمامًا.
لقد دفعتنا هذه الحرب لمعرفة أسماء الجبال والأزقة والشوارع والأسواق الشعبية، لنعرف كيف نطمئن على أصدقائنا وعلى أماكننا المفضلة، وبعد كل قصف ننجو منه نتنفس بعمق، ثم نتجرد من كل أمل مع كل قصف جديد لا يفصل بينه وبين سابقه سوى ساعات، وأحيانًا دقائق.
لا فائدة من المكابرة. يجب أن نتصرف مثل «عيال الحرب» من الآن فصاعدًا، وهذا يعني أن نتخفف وأن نرتب أهم الأوراق والأغراض في حقيبة متينة سهلة الحمل في حال فُرِضت علينا مغادرة صنعاء.
مغادرة صنعاء؟ كم كانت تلك الفكرة همجية وقاسية. لقد كان الموت بصاروخ يبدو لي أكثر لطفًا من مغادرة صنعاء. يبدو أكثر معقولية من أن أترك عملي وغرفتي وأصدقائي وأماكني.
لكن كلما تكثف القصف وظهرت جثث أكثر بشاعة وأكثر عددًا وأقرب مكانًا من بيتنا، زادت اتصالات والديَّ من دولة مجاورة كي نغادر صنعاء ولو بمنطاد تحمله بالونات الهيليوم.
فجر الخامس من إبريل
يصل إلى شقيقتي اتصال هاتفي بأن طائرة تتبع بلد السفارة التي تعمل بها ستغادر في السابعة صباحًا مع مَن تبقَّى من رعايا ذلك البلد، ولا مكان سوى لشخصين اثنين، فلم نستطع أخذ جارتنا السورية وبناتها الأربعة. لقد أُغلِقت كل موانئ اليمن بأمر من التحالف، ولا تُفتح إلا بإذن منه. لذلك كانت تلك الفرصة غير قابلة للتكرار.
حُسِم الأمر على ما يبدو، وها أنا أقوم بالمهمة الكابوسية. شعرت بأني أغادر جسدي وأنظر إليَّ بحياد تام. كنت أراني صامتة أجمع ملابسي وأغراضي في حقيبة لا أذكر شكلها. البكاء يحتبس تحت جلدي، والحركات مقتضبة وموجهة. من شاهد الفيلم المجري «Son of Saul» ربما يفهم ما أتحدث عنه.
بعد ساعات قليلة كنت في مطار صنعاء، ساعات أطول قليلًا وأنا في مطار غريب وبارد، أراقب اللاهين في دنياهم وأحدث نفسي: لقد قرر الله أن يتجاوز عن كل هؤلاء الخاطئين ليعاقبني أنا.
لكن كان هناك صوت ضعيف يهمس لي بأننا عائدون لا محالة، بعد شهر أو شهرين، أو لنقل بعد رمضان. إذ لا يمكن أن تجعل الدول الأشقاء موت اليمنيين جهرًا في نهار رمضان ولياليه. سيمر الوقت حتمًا وسأعود إلى صنعائي، فلأقل إن ذلك الخروج نزهة أو إجازة أو رحلة خلوية.
صعدنا الطائرة ورأيت صنعاء تصغر تحتي، وأشعر بها تُنتزَع من كل خلية في جسدي المخذول. بعد خروجنا بثلاثة أيام فقط وصل إلينا خبر مقتل ابن عمتي الجميل الممتلئ بالحياة واللطافة برصاصة حوثية آثمة بعد عيد ميلاده العشرين بأقل من شهرين.
قضيت تحت القصف 10 أيام، كل يوم منها يغوص ذراعًا في جوف الأرض، صانعًا حفرةً خانقةً تجرفني نحوها مهما يكن مكاني واسعًا. اكتشفت أن الحرب تطالك أينما كنت، ولا خلاص كاملًا منها على الإطلاق.
نجوت بجسدي وأماني الشخصي، لكن الحفرة ازدادت ظلمة. استطعت أن أتابع أخبار صنعاء من مكاني الآمن على أريكة بنية اللون في مدينة ساحلية شديدة الرطوبة. شاهدت مقطعًا مصورًا للشيخ عائض القرني يقول إن له الشرف لأن قريبه مروان القرني كان ينفث بأنه «ما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى» قبل أن يقذف بالصاروخ على جبل عطان، وكيف أن هذا الاتكال على الله جعل الجبل يشتعل يومًا ونصف يوم.
أعدت هذا المقطع مئات المرات، وفي كل مرة تتبدى صور القتلى الذين هرستهم القذائف بسبب انفجار جبل عطان، وقطع اللحم التي لم يُعرف لها صاحب، وصورة لينا شجاع الدين، الحلوة التي تعرفت إليها في إحدى المناسبات قبل عام من مقتلها مع زوجها وابنها في قصف القرني «المبارك».
رأيت صور البيوت بعد قصف جبل نقم، وسمعت قصة تلك المتسولة التي كانت تتجول في أحد الأحياء القريبة منه، ولم يتبق منها سوى كلية تعلقت بغصن يابس. رأيت صور شارع كلية الشرطة، والذي لم يكن له من اسمه أدنى نصيب. إذ كان عامرًا بصالونات التجميل وفساتين الأعراس. تأملت مليًّا الدكان الذي اشتريت منه فستان عرسي قبل تسع سنوات، وقد تشوهت واجهته واحترقت كل الفساتين البيضاء هناك.
رأيت شبابيك مكتبي وقد تناثرت كمثيلاتها في «ليلة الكريستال» ذات يوم قديم.
رأيت الطفل فريد في تعز، والذي وصلت قذائف الحوثيين إلى سنواته الغضة وهو يناشد طاقم التمريض في المستشفى: «لا تقبروناش» (لا تضعوني في القبر). لكن امتصت أمنيته الحزينة حسابات المتحاربين على كعكة اليمن من «أسود الشيعة» و«نمور السنة» وغيرهم من «بهائم الطوائف».
رأيت صور الذين ماتوا جوعًا، والذين ماتوا قهرًا، والذين ماتوا وهم ينتظرون موعدهم في طائرة تقلهم إلى بلد قد يقبل بأن يعالجهم. رأيت أعزاء الأمس يتغطون بالليل حتى لا يراهم أحد وهم يقتاتون من القمامة، رأيت العصابة الحوثية تتمدد مثل تسرب نفطي في بحر رائق يسمم في مسعاه كل طرائق الحياة الممكنة.
مر الوقت، والحرب كبرت كثيرًا، وصنعاء تبعد ولم تعد لي، وقد توقفت عن عد الساعات والأيام والشهور بعد مرور ألف يوم على ذلك الانتزاع، وبقيت قابعةً في تلك الحفرة، الحفرة ذات الأذرع العشرة.