إعاقة الحياة وإعاقة الحرب

"عندما توقف التراب رأيت أبي على الأرض مضرجًا بدمائه. كان يحاول أن يقوم من على الأرض ولا يستطيع، وأرى أمي في الجهة المقابلة ممددة، ودَبّة (جالون) الماء تسيل على الأرض.."

February 17, 2022

مأرب.. بين إعاقتين

17 فبراير/ شباط 2022

مأرب عبده (29 سنة)، مواطن من ذوي الإعاقة، من منطقة البراشى مديرية مقبنة، محافظة تعز. في عام 2010 قرر مأرب، وكان حينها يبلغ من العمر 18 سنة، السفر إلى السعودية للعمل هناك بعد أن كان هذا السفر حلمه منذ الصغر.

شجّعه على هذا الأمر، ما كان يراه من مقدرة مالية لدى المغتربين في منطقته، الذين يرسلون إلى أهاليهم دوريًّا بالمصاريف والهدايا. لكن لم يكن لديه فيزة عمل أو حتى جواز شخصي، فلجأ إلى حيلة أقل كلفة.

تواصل مع أحد المهربين ليعبر به الحدود اليمنية-السعودية بطريقة غير شرعية، وهم في طريقهم إلى الاغتراب، اصطدمت عربتهم بسيارة أخرى، فأصيب من كانوا على متنها. أصيب مأرب وأُسعِف إلى المستشفى.

لم تكن إصابته شيئًا يسيرًا، وإنما في العمود الفقري. أصيب مأرب بشلل كلي، تلقى بعدها العلاج لسنوات. وشاءت الأقدار أن يظل مأرب قعيدًا. أعيد إلى منزله بعد علاج استمر أشهر. تكفلت والدته القيام بشؤونه والاعتناء به. مرت سنوات وأسرته تعاني من الوضع المعيشي الصعب.

في 2015، وبسبب الوضع الاقتصادي المتردي، قررت أسرة مأرب النزوح من البراشي إلى مديرية حيس محافظة الحديدة، التي تقع تحت سيطرة اللواء السابع عمالقة التابع للقوات المشتركة، لعل وعسى أن يجد والده عملًا.

لم يكن لديهم القدرة على استئجارِ منزلٍ يسكنون فيه، ونظرًا لحالتهم الصعبة أعطاهم أحد الأشخاص منزلًا ليسكنوا فيه بدون مقابل. سكنوا لكنهم ظلوا يكابدون ظروف المعيشة، بينما يعيش مأرب معاناة إضافية لنتيجة لمصابه. في كل صباح، وطوال عشر سنوات يوميًّا، تقوم أم مأرب بإخراجه بواسطة الكرسي المتحرك إلى ظل البيت ليتحدث مع جيرانه الذين يؤنسون وحدته و يخففون من وطأة ألمه.

في يوم الإثنين 17 يونيو/ تموز 2019، أخرجت الأم -كالعادة- ابنها إلى ظل البيت. كان الجيران متواجدين، وكذلك والدُ مأرب وبنت أخيه الصغيرة (أربع سنوات)، وعلى بُعد أمتار قليلة من أمام البيت يوجد خزان مياه وضع للنازحين.

أخذت أم مأرب جالونات الماء البلاستيكية، وقامت بتعبئتها من الخزان، وأثناء نقلها سقطت قذيفة هاون انطلقت من الجهة الشمالية التي تسيطر عليها جماعة أنصارالله (الحوثيين)، بجانب مأرب والجيران الموجودين. أصيب مأرب وأمه ووالده وبنت أخيه وأحد الجيران بالشظايا، ثم تُوفِّيَ على إثر ذلك الأم والأب.

يقول مأرب: “عندما سقطَت القذيفة تأثر سمعي. كنت أرى التراب وهو يطير مع الدخان من الأرض. لم أشعر بوجع الشظية التي دخلت في فمي وكسرت لي ثلاثًا من أسناني”.

“عندما توقف التراب رأيت أبي على الأرض مضرجًا بدمائه. كان يحاول أن يقوم من على الأرض ولا يستطيع، وأرى أمي في الجهة المقابلة ممددة، ودَبّة (جالون) الماء تسيل على الأرض.

كنت أحاول أن أمشي بالكرسي لعلي أصل إلى أبي الذي حاول أن يحبو على ركبتيه ويديه ولم يستطع. حاولت جاهدًا ووصلتُ إلى جانب أمي وسقطت من على الكرسي إلى جانبها، ثُم تم إسعافنا”.

تمنّى مأرب لو أنه يستطيع المشي والحركة ليسعف والديه. عانى كثيرًا حتى إنه عندما أُسعِفُوا إلى المستشفى الميداني بمديرية الخوخة، تعطلت سيارة الإسعاف وتلف إطارها. هذه اللحظة فقط كفيلة بأن تترك له صدمة نفسية مدى حياته، ٳن لم يمت فيها.

يقول مأرب: “عندما تعطلت علينا سيارة الإسعاف، اشتد الوجع عليَّ وكدت أموت”. بعد إسعافهم إلى المخا لم يكن يعلم مأرب أن والديه قد فارقا الحياة. ظل في المستشفى وكلما سأل عن والديه أخبروه أنهما بخير. بعد أسبوع عرف الخبر فانهار وأجهش بالبكاء.

فعلى الرغم من أن مأرب عايش الإعاقة عشر سنوات إلا أنه لم يشعر بهذه الإعاقة، مثلما تعلق الأمر بفقدانه والديه، وإغلاق الدنيا أبوابها أمام ناظريه.

يضيف مأرب: “لم أكن أفكر في شيء عندما عرفت عن موت والديَّ إلا في شيء واحد؛ هو: مَن سيرعاني؟! أنا معاق. من سيهتم بي؟ من سينظفني؟ من سيقوم بإخراجي إلى ظل البيت لأتنفس هواءً غير هواء الغرفة التي أعيش فيها؟ من؟ ومن؟ ومن؟”.

يختم مأرب: “كرهت هذه الحياة بعد موت أمي وأبي”.

حَلُمَ مأرب بالحياة الكريمة في الغربة، فعاد بالإعاقة، حَلُمَ بعد ذلك بالاستقرار، فعاد بدون عكّازيه؛ أمه وأبيه. وبقيت له بين كل ذلك، ساعات الانتظار، وأسئلة وجودية قلقة لا تعثر على إجاباتها.