آخر الحرس

في تعز، لم نكن بمنأى عن الموت أو الإصابة طيلة سنوات الحرب، ولكن هذه اللحظة كانت أقرب ما يكون، أكملت طريقي مواجِهةً تمامًا للقناص، مرت في ذهني صور عديدة؛ الأشخاص المقربون الذين لا يعلمون أني هنا الآن، الأيام التي لم أعشها بعد وتبدو أبعد ما يكون في هذه اللحظات..

December 5, 2021

إنه ليس منزلًا عاديًّا، إنه أكثر من منزل

5 ديسمبر/ كانون الأول

منال القدسي

عند وصولي لتلك الدَّرج المؤدية إلى الحارة، شعرت وكأني في طريقي إلى الموت.من حارة الفرن في الروضة مديرية القاهرة بمدينة تعز، تبدأ بالسير على أقدامك التي لا تكاد تحملك لخطورة ما أنت ذاهب إليه، يصادفنا أحدهم على مدخل الدرج المؤدي إلى حي كلابة، قائلًا، إلى أين؟ هذه مواقع خطيرة وممنوع الدخول.في تعز، لم نكن بمنأى عن الموت أو الإصابة طيلة سنوات الحرب، ولكن هذه اللحظة كانت أقرب ما يكون، أكملت طريقي مواجِهةً تمامًا للقناص، مرت في ذهني صور عديدة؛ الأشخاص المقربون الذين لا يعلمون أني هنا الآن، الأيام التي لم أعشها بعد وتبدو أبعد ما يكون في هذه اللحظات، تخيلي لسيناريوهات كثيرة خلال هذه الدقائق، كان أكثر ما يخيفني أن أصاب أو تعتريني ندبة واضحة.وصلت حي كلابة، المكان المُوحش والبعيد عن الحياة منذ اندلاع الحرب، حيث التقيت حنان عبدالعزيز (٣٧ سنة) أم لأربعة أطفال؛ فتاة وثلاثة أولاد. منذُ الأول من مايو/ أيار 2015، لم تغادر الأسرة منزلها المتواجد على خطوط النار، المقابل لمعسكر الأمن المركزي، والذي تسيطر عليه جماعة أنصار الله (الحوثيين) منذ اندلاع الحرب.عند أول هجمة لطيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات على معسكر الأمن المركزي، نزح جميع أهالي الحي إلى مناطق متفرقة. البعض منهم انتقل إلى محافظات أخرى أكثر أمانًا والبعض الآخر عاد إلى القرى.جميع من تركوا منازلهم كان في اعتقادهم أنها أيام قليلة ويعودون. لم تكُن هذه الحرب في بال أيّ منا وها هي تطرق عامها السابع ليبدأ النازحون حياة جديدة من الصفر. هذه الأسرة التي بقيت بوجه المدفع لم تكن تملك خيارات للهرب والنجاة، فبقيت في منزلها كآخر الحراس.تخبرني حنان عن أول عامين من الحرب بصوت يملؤه الخوف والهرب:

"في السنتين الأُوْلَيَين للحرب، عشنا أيامًا صعبة وقاسية. كُنا لا نغادر باب منزلنا حتى في النهار. تحولت الحارة إلى مكان مهجور لا يوجد به سوانا وثلاث أسر أعلى الحارة على بُعد أمتار منا، تغطيهم عمائر مرتفعة فلا يراهم القناص بوضوح، في الليل نبقى في الظلام، أي ضوء يتم استهدافه من قبل القناص".

اتساع عينيها وهي تحكي، حركة يديها، رعشة صوتها دلت على خوف باتت تعيش معه وكأنه أحد أطفالها؛ تقول: "سنتين لم نرَ فيهما الحياة، وكأننا في قبر!".

يتواجد قناص تابع لجماعة أنصار الله (الحوثيين) أعلى جبل معسكر الأمن المركزي في غرفة صغيرة تبعد مسافة ٨٠٠ متر تقريبًا عن الحارة، بينما يوجد قناص آخر تابع لنفس الجماعة أسفل الحارة نفسها داخل عمارة بيضاء مكونة من ستة أدوار تم الاستيلاء عليها بداية الحرب، تبعد حوالي 250 مترًا من منزل هذه الأسرة، المنزل الذي يُعد آخر منزل في منطقة كلابة، تسيطر عليه القوات التابع للحكومة المعترف بها دوليًّا في مدينة تعز.كان القناص حتى إذا مشت قطة أو كلب يقوم باستهدافها. أي صوت يُصدر يُطلق النار عليه.كانت حنان تخرج بنفسها لجلب احتياجاتها، ولو أن في الأمر مجازفة، تقول:"عند خروجنا لا نضمن العودة. نمشي مسافة ١٠٠ متر داخل الحارة، وخلفنا الأمن المركزي. نصل إلى الدَّرج المؤدي إلى حارة الفرن بحي الروضة مديرية القاهرة. نصعد فوق المئة دَرجة مواجهة أيضًا للأمن المركزي ومن الممكن استهدافنا.لكننا عرفنا مواقيت صحوة القناص؛ مثلًا من الفجر حتى الساعة التاسعة نسمع صوت طلقات نارية، بعد ذلك هدوء، حتى المغرب يبدأ بالضرب لأماكن متفرقة، لكن نأخذه كتنبيه لا أحد يغادر المنزل!حين نصل إلى حارة الفرن يبدأ معسكر الأمن بالاختفاء، وهنا تبدأ بالتقاط أنفاسك، ولكن يجب الإسراع بالعودة قبل غروب الشمس من نفس الطريق وشوط آخر من القلق والخوف".تصف حنان بقاءها في المنطقة رغم خطورتها البالغة:

"لم نفكر أبدًا في ترك منزلنا. زوجي لم يقبل بهذا الخيار أبدًا، خسر كثيرًا في بناء البيت، وإذا تركناه لن نعود وهو موجود سيحتلونه، ولن نستطيع إخراجهم بعدها، كما أن حياة النزوح أصعب.

لا أشعر بالأمان مطلقًا. أعصابي متشنجة دائمًا. يدرس أولادي الاثنين في مدرسة الصديق، جولة سنان، مديرية القاهر،ة وابنتي في مدرسة زيد الموشكي، منطقة الروضة، مديرية القاهرة. يخرجون الساعة السادسة صباحًا مشيًا على الأقدام، وأبقى أنا داخل المنزل أنتظر عودتهم بكل خوف.سبع سنوات وأنا على هذه الحال. لا يعرف أطفالي الحياة. خرج طفلي الأصغر (٨ سنوات) إلى منطقة الحوبان حيث أعمامه. هناك شاهد مظاهر الحياة، كان يشهق استغرابًا عندما شاهد السيارات وإضاءتهن ليلًا. عندما ذهب إلى الحديقة لم يتوقف عن الركض واللعب والسؤال عن الأشياء وكأنه خرج من كهف!".في نتيجة منطقية للعيش في هذه البقعة الموحشة من العالم، لم تنجُ أسرة حنان من رصاص القنص المباشر، ففي أوقات متفرقة خلال يونيو/ حزيران 2021، أصيب ابن حنان وزوجها. استهدف القناص ابن حنان، علي عبدالله (17 سنة) برصاصة في الساق اليسرى في السادس من يونيو، وبعدها بأسبوعين؛ أي في 27 من الشهر نفسه، استهدف زوجها عبدالله علي السيد (45 سنة) برصاصة في اليد اليمنى.عند وصولي للمنزل كانت الفتاة (ابنة حنان) تقطع الأشجار حول المنزل لتأخذها للجهة التي يتمركز فيها القناص لحجب رؤيته أكثر بعد استهداف أخيها وأبيها جوار المنزل تمامًا.الوحشة هي أكثر توصيف لهذا المكان المهجور، شاهدت آثار دماء متجمدة على الأرض، لا يخلو أي منزل من الدمار وآثار القذائف. في مفارقة عجيبة، نبتت الأشجار في مكان تلاشت فيه الحياة. بعض الأشجار التي نمت على الطريق الأسفلتي، ساهم نموها في حجب رؤية القناصين عمن بقي في المكان.ما تعانيه هذه الأسرة تعانيه أيضًا أسر مماثلة أعلى الحارة، لكن ليس بنفس الدَّرجة، لبعدهم قليلًا عند القناص بمسافة ٣٥٠ مترًا تقريبًا، ووجود عمائر مرتفعة خلفهم جعلهم أكثر حظًّا.في اليمن، يصبح التخلي عن المنزل الذي نشأ فيه المرء أمرًا غاية في الصعوبة، والبعض لا يقوى عليه ويفضل البقاء في الخطر على أن يترك بيته الذي بقي عمرًا كاملًا يبنيه وارتبط به روحًا. في كل زاوية منه هناك قصة وذكرى وخلال هذه السنوات شهد هذا المنزل -تحديدًا- العديد من الذكريات الصعبة والسيئة التي زادت من صلابته. هذا المنزل ليس منزلًا عاديًّا، إنه الشاهد الوحيد على كل هذا العبث.