كغيره من الشباب اليمني ممن هزتهم قلة الحيلة وشظف العيش، أقدم سامي حيدر (اسم مستعار- 33 سنة) على المخاطرة بنفسه طلبًا للرزق ولمساعدة أسرته في المصاريف، فقطع الحدود اليمنية السعودية تحت جنح الليل وأزيز الرصاص. افترش الأرض والتحف السماء لساعات مرت وكأنها أيام. أيام كأنها سنوات، ليصل إلى شوارع مدينة جدة السعودية المكتظة بعديد جنسيات عربية وغير عربية.
وبمبلغ 1500 ريال سعودي في الشهر، عمل لدى إحدى محلات تقطيع الزجاج، وواظب على إرسال المصروف الشهري لوالده لأربع سنوات خلت. وبعد حوالي أربع سنوات قضاها في الغربة، وفي إحدى الليالي التي لا تشبه ليالي جدة، ألقت الشرطة السعودية القبض على سامي، بتهمة أن إقامته بدون فيزا، ليساق إلى سجون الترحيل لمخالفي الإقامة في الأراضي السعودية.
بضعة أسابيع مرت لينتهي به المطاف عاطلًا عن العمل في مدينة شبام، بمحافظة حضرموت.
ينحدر سامي من أسرة تسكن مدينة شبام التاريخية، محافظة حضرموت، وعاد إليها بعد ترحيله من السعودية بداية العام ٢٠٢٠، ولم يجد أمامه أي عمل سوى عامل في أكيار الجير (مادة النورة) بأجر بخس بضعة آلاف من الريالات اليمنية متدهورة القيمة يتحصل عليها في نهاية كل أسبوع.
سنة كاملة مرت دون أن يشعر بأنه حقق مبتغاه للوصول لمبلغ مالي يستطيع من خلاله أن يتزوج، ولم يكن يعلم أن الأسوأ في انتظاره. تلقى اتصالًا هاتفيًا من صديق لم يبح باسمه حتى الآن لأسباب تجهلها أسرته، طالبًا من سامي تحديد موقعه ليمر عليه فثمة موضوع مهم سيناقشه معه!
جاء القادم، على متن سيارة (سنتافي كورية الصنع) بيضاء اللون، صعد إليها سامي لتكتب فصلًا مؤلمًا من حياته. حوالي أربعة مسلحين اقتادونه إلى أحد أسوأ السجون في مديريات وادي حضرموت وهو سجن الأمن السياسي في مدينة سيئون، حيث قد تصبح أثرًا بعد عين، هناك في زنازينهم. حياة أخرى وبشرًا ليسوا كباقي البشر.
قضى سامي قرابة ستة أشهر من عمره في سجن الأمن السياسي بسيئون، بين جدران مظلمة وتحت سياط سجانيه. على صفيح ساخن من الألم الجسدي والنفسي لسع كل شبرٍ من جسده، في زنزانة انفرادية يضطر في بعض الأحيان أن يتبول في أحد أركانها. يقضي أول خمسة أيام من اعتقاله، ولا يعرف عن مصيره أحد.
في اليوم السادس من الاعتقال تم تحويل سامي نحو (الضغاطة) ثاني وسائل التعذيب التي استخدمت معه بعد الحبس الانفرادي، ذلك القبو الذي ما أن توضع فيه ستشعر وكأن الموت يتسلل الى جسدك شيئا فشيئًا. حسبك دقائق أو ثواني في مساحة لا تتجاوز متر في متر وارتفاع معه لا يستطيع حتى قصير القامة أن يستقيم بكامل طوله.
هكذا يروي جميل منصور (اسم مستعار- 48 سنة) صهر سامي قائلًا:
"لقد وضعوه في زنزانة ضيقة جدًا تسمى الضغاطة، حتى أن سامي شعر بالاختناق، ولولا أنه لا يعاني من أي مشاكل نفسية وإلا كان سيقضي نحبه في تلك الزنزانة اللعينة".
بعد يومين في قبو الضغاطة سيق سامي إلى غرفة التحقيق لا يرى شيء. فالعصابة تلازم عينيه كلما خطى خطوات خارج زنزانته، يبدأ المحقق بطرح الأسئلة وما أن تكون الإجابة خلاف ما يريده ومساعديه الإثنين حتى تبدأ نوبات الضرب بالأيدي والركل بالأرجل، لكن الامر لم يتوقف عند ذلك.
مع استمرار الضحية في رفض أقوالهم واتهاماتهم، يجن جنون المحقق ليأمر مساعديه بربطه على عمود حديدي ويتم جلده بسلك كهربائي لساعات، كانوا يطلبون منه الاعتراف بانتمائه لتنظيم القاعدة وإن مهامه هي رصد تحركات جنود وضباط الأمن العام في مديرية شبام محافظة حضرموت.
تنوعت وسائل التعذيب بين التعليق بالقيود الحديدية والجلد بسلك كهربائي إلى الرش بالماء البارد ثلاث ساعات. كانت كافية في نظر الجلادين لتدمير نفسية الضحية، بعد أن تأكدوا من ذلك أعادوه إلى الزنزانة الانفرادية ليقضي بضعة أيام ثم يتم نقله إلى زنزانة جماعية مع معتقلين آخرين.
كانت حفلة التعذيب لمدة ثلاث ساعات كافية لأن تخلق عنده حالة رهاب شديد لسنوات قادمة، وحتى وعندما تم إعادته لغرفة التحقيق وطُلب منه التوقيع على أوراق لا يعرف محتواها أو خطورة ما قد يكتب فيها على حياته ومستقبله بصم لهم سامي على كل ما يطلبون كمن يفر من حتف إلى حتف.
فيما كان صهر الضحية يجوب المدن في حضرموت ومحافظة المهرة بحثًا عن سامي حاملًا معه صورته الشخصية ليدلوه عليه. لم يترك قسم شرطة أو أمنًا سياسيًا أو شعبة استخبارات إلا وسأل عنه. لا أثر وكأن الارض ابتلعته.
يقول جميل (صهر الضحية):
"لقد كانت صورته لا تفارق جيبي حتى أقسمت أمه ألا تبرح مكانها في بيتهم في مديرية شبام حتى يأذن الله بظهور سامي أو ان يقضي الله امرًا كان مفعولا لتعتزل الحياة وفي قلبها حسرة على غيابه".
ذات ليلة، وبعد عام من اختفاء سامي، رن هاتف جميل، وإذا بصديق قديم سبق له أن طلب منه أن يبحث عن الضحية في السجن المركزي بالمكلا ليأتى اليقين، وتحيي أملًا في قلوب أسرة الضحية، كانت بضع كلمات (سامي موجود)، حتى تعيد رسم البسمة على شفاه أم ظنت أنها ثكلت به وأبًا كادت أن تبيض عيناه من شدة الحزن على فقد ابنه.
في النصف الثاني من شهر ديسمبر/ كانون الأول ٢٠٢١ تم نقل سامي إلى السجن المركزي بالمكلا ليتم إيداعه زنزانة الاستقبال في العنبر السياسي لتبدأ فصول أخرى من القصة.
"لا يوجد ملف" هكذا كان جواب رئيس النيابة الجزائية لأسرة الضحية في أول مقابلة، وبعد إصرار من صهر الضحية واستشهادًا بقول نائب مدير السجن المركزي بالمكلا بأن سامي موجود لديهم منذ أكثر من خمسة أشهر، قضى منها شهرين في زنزانة انفرادية قبل نقله إلى العنبر السياسي (بيت 1).
أحيل ملف القضية إلى العضو المحقق في النيابة الجزائية بالمكلا ليتم التحقيق مع سامي في فبراير/ شباط ٢٠٢٢، ثم يسمح له بالزيارة الدورية والاتصالات الهاتفية، ولكن ملف القضية ظل معلقًا لأكثر من ١٧ شهرًا، ففي النيابة الجزائية العقوبة تسبق المحاكمة فبين دهاليزها تغيب العدالة.
كان من المقرر أن تعقد أولى جلسات محاكمة سامي في ١٨ يونيو/ حزيران ٢٠٢٣م أمام المحكمة الجزائية بالمكلا بتهمة الاشتراك في عصابة مسلحة، بما يسمى تنظيم القاعدة وترويج المخدرات، نقيضان لا يجتمعان ولكنها سياسة التنكيل حتى ولو لم تكن لخصومٍ سياسيين.
سيقضي سامي عيده السادس خلف الجدران المظلمة، يبث حزنه وشكواه إلى الله تعالى، وخارج تلك الجدران وعلى مسافة تزيد عن ٢٥٠ كيلومتر شمالا قلب أم يعتصر ألمًا على ضياع أجمل سنوات ابنها أكثر من سنتين وهي بين جدران بيتها الطيني، لتبري قسمًا ووعدًا قد قطعته فهي لن تبرح مكانها حتى يرمي عليها سامي بنفسه سلامًا يطفئ نارًا اتقدت على فقده قبل سنوات. وللقصة بقية.