أحد أسوأ أنماط الانتهاكات وأكثرها تأثيراً على المجتمع اليمني هو انقطاع رواتب الموظفين الحكوميين، الذي بدأ في 2016، واستمر حتى اليوم، الأمر الذي أثر على الجميع بشكل مباشر بهذه الحرب، وبات كل بيت في اليمن يعاني تبعات انقطاع الرواتب.
الدكتور أحمد (اسم مستعار) (50 سنة)، وقف في طابور طويل، بوقاره وبدلته التي يرتديها حين يلقي محاضراته الجامعية، يعدّل نظاراته التي انحرفت عن موقعها حين دفعه أحدهم أثناء الزحام، بعد ثلاث ساعات ونصف من الوقوف في ثلاثة طوابير طويلة مع عدد كبير من الموظفين. وصل إلى سمعه تذمر أحد كبار السن وهو يسحب الأكياس الثقيلة وحده بعد أن مُنع الحمّالون من الدخول في ذلك اليوم، كان أحمد يردد في نفسه: “إنهم يتعمّدون إذلالنا”.
أثرت الحرب على المجتمع اليمني منذ وسيطرة الحوثيون على صنعاء بقوة السلاح في سبتمبر 2014، ومع تدخل التحالف بقيادة السعودية والإمارات في مارس 2015. تنوعت الانتهاكات التي تمارسها أطراف الحرب، لتسجل اليمن كأسوأ أزمة إنسانية.
كان أحد هذه الأنماط وأكثرها تأثيراً على المجتمع اليمني -مخلفاً أسوأ كارثة إنسانية في اليمن- هو انقطاع رواتب الموظفين الحكوميين، الذي بدأ في 2016، واستمر حتى اليوم، وتأثر الجميع بشكل مباشر بهذه الحرب، وبات كل بيت في اليمن يعاني تبعات انقطاع الرواتب.
التجويع سلاح حرب
ترك كثير من الموظفين أعمالهم الحكومية واتجهوا إلى القطاع الخاص لتدبّر أمور معيشتهم، في حين ظل المدرسون والعاملون في قطاع التعليم مجبرين على أداء عملهم بسبب تهديدهم بالفصل والاستبدال، وكانوا الأكثر تضرراً من توقف صرف الرواتب حيث لا يعد هذا القطاع جهة إيرادية يمكن أن توفر لموظفيها مبالغ بسيطة من وقتٍ لآخر كالقطاعات الأخرى.
تم نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، وانتقلت معه مصائر آلاف الموظفين في القطاع العام إلى المجهول. خاصة أولئك الذين يعيشون في المناطق التي تقع تحت سيطرة جماعة أنصار الله المسلحة (الحوثيين). فلا الحكومة تعاملت معهم كمواطنين ودفعت لهم رواتبهم، ولا الحوثيون اعتبروا أنفسهم مسؤولين عن دفع الرواتب لهم.
منذ عام 2009 يعمل أحمد -الذي يحمل شهادة الدكتوراه- أستاذاً جامعياً في قطاع التدريب والتأهيل في وزارة التربية والتعليم في صنعاء، وفي سبتمبر/ أيلول 2016 انقطع راتبه كجميع موظفي الدولة بسبب دوامة الحرب التي دخلت فيها اليمن، والتي وصلت فيها انتهاكات أطرافها حد استخدام التجويع كسلاح حرب.
ما زال أحمد يقدم المحاضرات في عمله الحكومي، ويحاول العمل في القطاع التعليمي الخاص لتغطية نفقاته الشخصية، إلا أن الأزمة أثّرت على هذا القطاع أيضاً، وخفضت الأجور إلى النصف بسبب زيادة عدد أساتذة الجامعات الذين يتنافسون على العمل في الجامعات الخاصة.
يقول أحمد: “نداوم حفاظاً على الوظيفة وتأدية للواجب، ونحضر كونها محاضرة ليست بدوام كامل ولهذا نستطيع تأدية وظائفنا، وفي نفس الوقت نعمل في أماكن أخرى لتغطية نفقاتنا الخاصة”.
عزة النفس والمساعدات الإنسانية
قبل سنوات الحرب كان أحمد يرى من المعيب أن يتلقى أساتذة الجامعة المعونات التي كانت توزع كمساعدة إنسانية للمحتاجين والفقراء في شهر رمضان والمناسبات الدينية، ثم أصبح يقف منتظراً دوره للحصول على نصيبه. يقول: “احترامك لنفسك يتراجع أمام ضعف القدرة على تغطية الاحتياجات، صار الأمر تغطية الاحتياجات وليس الحفاظ على صورتك. تتنازل عن الشكل والهيبة والبريستيج مقابل أن توفر أساسيات المعيشة”.
بدأ هذا الحاجز يزول مع مرور الوقت، وأصبح يطالب بحقه من هذه السلال الغذائية التي تقدمها منظمات دولية كمساعدات للمتضررين من النزاع، فتلقي المساعدات ليس عيباً أو عاراً بل محاولة لتدارك حالة إنسانية طارئة.
السفر من أجل الراتب
اعتمدت سلطة هادي إجراءً لصرف رواتب الموظفين في المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي، وهو ضرورة السفر إلى محافظة عدن والمعاملة لصرف الراتب بصفة “نازح”، وما يتطلبه هذا الأمر من تعب ومخاطرة، خاصة مع انتشار النقاط الأمنية والحزام الأمني الذي يمنع أبناء المناطق الشمالية من دخول عدن.
في 19 يونيو/ حزيران 2018 تم إيقاف مجموعة من الأساتذة الجامعيين –بينهم أستاذة جامعية مع زوجها- في نقطة قحازة التي تتبع جماعة أنصار الله (الحوثيين)، في طريقهم من صنعاء إلى عدن للحصول على رواتبهم، فتش أفراد النقطة هوياتهم وحققوا معهم حول سبب سفرهم، قالوا لهم حين عرفوا أنهم أساتذة جامعيون ذاهبون للبحث عن رواتب: “تركتم الطلاب؟ لا تريدون تدريسهم؟” ثم أبلغوهم أن السفر إلى عدن ممنوع. اعتقلوا الأساتذة الجامعيين، ثم أفرجوا عنهم بعد أيام ليعودوا إلى صنعاء دون راتب.
بيوت تنهار
أصبح الموظف يقف بجيبين فارغين أمام أطفاله، يعجز عن توفير الوجبات الأساسية أو توفير قيمة تلقي خدمة طبية فيما لو مرض أحدهم، كان أيضاً مهدداً بخسارة مكان إقامته وعائلته، بعد عجزه عن دفع الإيجار.
لم تتحمل كثير من الأسر تبعات انقطاع الرواتب، ولم تصمد كثير من المنازل أمام هذا المد العاصف للحاجة والعوز والعجز، وسرعان ما آلت الظروف الاقتصادية القاهرة بالكثير من العائلات إلى التفكك والانفصال، عشرات من السنوات يقضيها الإنسان ليؤسس عائلته وفي ظل أزمة قاهرة يجد نفسه غير قادر على حمايتها أو الإبقاء عليها وهو يقف عاجزاً عن الإيفاء بمتطلباتها ومسؤولياته.
خسر أحمد زوجته بسبب تدهور حالته المادية، يتذكرها بغصة ويقول: “فقدت زوجتي بسبب الوضع المادي، حيث انفصلنا نتيجة لهذه الظروف وعجزي عن توفير المتطلبات التي كنت ملزماً بها، مطالبها كانت محدودة لكنها لم تكن متوفرة وليس من إمكانية لتوفيرها. كما تغيرت طبيعة الحياة، الزيارات الأسرية أصبحت محدودة بسبب انقطاع الرواتب وارتفاع كلفة المواصلات”.
دمرت حياة كثير من الموظفين، وصار من الاستحالة أن تعود حياتهم كما كانت حتى لو صرف الراتب، فتلك الأسر التي تشتت شملها وتفككت روابطها لن تصلحها عودة الراتب أو تلم شملها، لكننا نتمنى بالفعل أن نحمي ما تبقى من الأسر، ونصون الروابط التي عمل كثيرون سنوات في بنائها والمحافظة عليها.
في أزمة انقطاع الرواتب التي تأثر بها معظم موظفي القطاع الحكومي في اليمن، والعاملون في قطاع التعليم خاصة، هناك أحمد الذي يقول إنه بعد أن خسر كل شيء، لم يعد يتخفى بخجل حين يقف في طوابير المساعدات الإنسانية، وهناك آخرون غيره يجوعون ويموتون بصمت خلف الأبواب المغلقة. جميعهم كانوا أساتذة جامعيين تعبوا واجتهدوا كثيراً للحصول على حياة كريمة ووظيفة آمنة، وكانوا يظنون أنهم قد حصلوا عليها ولا يستطيع أن ينتزعها منهم أحد، حتى جاءت الحرب، وانتزعت كل شيء.