على حافة الحرب والهوامش الحزينة، هناك الكثير مَن يقفون على الخط الفاصل بين الموت والحياة، لا يملكون حتى جمرة للحزن أو الغضب، لا تعرف كيف تواسيهم لرحيل من كان معهم، ولا كيف من الممكن أن تكون النجاة في مثل هذه الأحوال حظًّا سعيدًا..
في ركام القصص اليمنية، وعلى حافة الحرب والهوامش الحزينة، هناك الكثير مَن يقفون على الخط الفاصل بين الموت والحياة، لا يملكون حتى جمرة للحزن أو الغضب، لا تعرف كيف تواسيهم لرحيل من كان معهم، ولا كيف من الممكن أن تكون النجاة في مثل هذه الأحوال حظًّا سعيدًا.
في آخر القصص التي مرّت، كان عبده علي (23 سنة)، الذي يبدأ حديثه دومًا بـ”كنت معهم”، ثم يحكي:
“كنت معهم في نفس السيارة، كُنّا نضحك ونتحدّث ونسخر من الحرب ومن أزمة الوقود الطاحنة. مررنا على قريتنا التي أحبُّها وقررت أن أنهي رحلتي معهم وأنزل من السيارة”.
مرت فقط خمس دقائق بعد ترجل عبده من سيارة أخيه، ولم يخطر بباله أن يودّعهم، فقد اتفقوا على لقاء قريب خلال ساعات معدودة.
انفجر لغمٌ زرعته جماعة أنصار الله (الحوثيين) في مدينة الحُديدة، في 27 مارس/ آذار 2022، وابتلع خمسة أشخاص دفعة واحدة، شقيق عبده، وابن شقيقه، وثلاثةٌ من أبناء شقيقاته.
كلما طلب الآخرون منه أن يروي ما حدث، يرفع رأسه ويحنيه وكأنه يخجل من نجاته ويردّد بين الحين والآخر: “كنت معهم”، وحين عدت إليهم كانوا لحمًا معلّقًا على أسلاك الكهرباء.
وفي أُولَى القصص التي عرفْتُها، قابلت أشواق عبدالله (28 سنة)، أمٌّ لأربعة أطفال (سالم، أسامة، خالد، جمال). قرّر الموتُ التهامهم دفعة واحدة عبر صاروخٍ للتحالف بقيادة السعودية والإمارات، دمّر مسكنهم، ودمّر سكينتها أيضًا، في الثامن عشر من أغسطس/ آب، للعام 2015، أثناء مشاهدتهم الرسومَ المتحركة، وربما أثناء ما كانوا يضحكون أو يختلفون على تغيير القناة.
اختار الموت كلَّ مَن كان في المنزل، عدا أشواق. التقط بسرعة أولادَها الأربعة وأمّ زوجها وشقيقته وابنة شقيقه، وتركها شجرة مقطوعة ومحترقة. لم أرَ في حياتي وجهًا حزينًا كوجه أشواق، ولن أنسى ألمها الذي انتقل إلى صدري وأنا أضع نفسي مكانها.
رحل الصغار بدون وداع، ودون أن تتمكن من رؤيتهم للمرة الأخيرة.
**
أعرف أيضًا بشيرًا؛ بطلٌ صغير بشلالٍ من القصص التراجيدية. في هذا العام، سيصير عمره عشرة أعوام. حين عرفته كان عمره خمسة أعوام فقط، في غرفة كئيبة للعناية المركزة، وكان ذلك في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2017.
ماتت أمُّ بشيرٍ قبل أن تندلع الحرب؛ في أثناء ولادتها له، واحتضنته عائلة عمّه، وعاش معهم خمسة أعوام كابن حقيقيّ لهم.
ألقت مقاتلات التحالف بقيادة السعودية والامارات أربع قنابل أنهت عائلة بشير الجديدة، في منطقة هران بمحافظة حَجّة (عمه وعمته وأبنائهما، وقتلت والده أيضًا وجدّه وأولاد عمومته، وكلَّ من حاول إسعافهم، وعددهم أجمعين 22 شخصًا).
ظلّ الصغير في العناية المركزة 10 أيام، وفاق منها طفلًا جديدًا ينتظر -ربما- عائلة أخرى، ولا أعلم إن كان قد حصل عليها.
أعرف أيضًا جنديًّا صغيرًا لم يذهب عنوة إلى الحرب، لكنه عاد بوجهٍ أسمر ومحترق، وبخمسة من الرفاق المفقودين. لا تتحدث إلى الناجي الوحيد إلا وأنت قابض على صدرك، ممسكًا بقلبك من أن يفترسه الخوف.
وحتى تنتهي الحرب في اليمن سنقف جميعنا في طابورٍ واحد، حيث الناجي الوحيد. نأمل ألَّا نموت فيها وألَّا يختار الموت أسماءنا ليشطبها.