عندما يرن الهاتف تهتز قلوبنا
سمير أحمد (اسم مستعار- 44 سنة)، متزوج وله بنتان وولد، يسكن مع أسرته في بيت والده بمنطقة وادي حضرموت، محافظة حضرموت. غادر الدراسة وهو لم يكمل المرحلة الأساسية، وتوجّه للعمل باكرًا، بسبب الظروف التي كانت تعانيها أسرته، حيث والده الذي أقعد المرض، ما حدا به للتنقل من عمل لآخر طلباً للزرق حتى في أماكن بعيدة وخارج مديريته.
في أحد الأيام، ذهب سمير للعمل كبنّاء في منزل طيني بمديرية زمخ ومنوخ التابعة للمديريات الصحراوية، وبعد أن أكمل عمله الذي أستغرق أسبوعين عاد إلى المنطقة التي يسكن فيها، أي منطقة الوادي، وبعدها بسنة ونصف بدأت قصة معاناته التي لا تزال قائمة إلى اليوم.
يروي والد سمير ما حدث:
“كان فجر يوم الأحد الثاني من يونيو/ حزيران 2019، والموافق 28 رمضان، ومع هدوء ساعات الفجر، ودون سابق إنذار، إذ بصوت عربات توقفت بجانب المنزل، جعلتني أنهض إلى النافذة لأرى. ما مصدرها، ومن الضيف القادم إلينا، وإذا بي أرى مدرعات وأطقم وأشخاص ينتشرون كالخفافيش بين المنازل المجاورة لنا، ومع الظلمة لم أتمكن من رؤية عددهم، ومن هم؟
انتابني خوف ورجفة، وتساءلت ما الذي يجري، وما هي إلا برهة فإذا بطارق يطرق باب منزلنا بقوة، ويركل بابه ركلًا. ناديت على ابني نادر (شقيق الضحية)، ليفتح الباب بسرعة قبل أن يأتوا عليه، ولنرى من هو الطارق، فأنا مقعد ولا أستطيع الخروج، وكان الأخير يتجهز للذهاب إلى المسجد للصلاة فنزل مهرولًا.
عندما وصل نادر إلى الباب ليفتحه اندفع الباب إليه بقوة، وتدافع من الخارج جنودًا قاموا بطرح ابني على الأرض، والقبض عليه، تلى ذلك مجموعة أخرى، اقتحمت المنزل مسرعة، وكأنهم يبحثون عن شيء. كانوا يلبسون لباسًا عسكريًا طيني اللون (بني فاتح)، ويحملون أسلحتهم الرشاشة. صرخ نادر: من أنتم؟ وماذا تريدون؟ فقام اثنان من الجنود بتكبيل يديه وإخراجه من المكان.
كان الذهول باديًا على ملامح نادر، عندما شاهد ما يقارب 15 مدرعة وعدد من الأطقم التابعة لقيادة المنطقة العسكرية الأولى (قوات تتبع الحكومة المعترف بها دوليًا). إثر ذلك قدمت مدرعتين وتوقفتا، ثم خرج من إحداها رجل طويل القامة يلبس ثوبًا أبيضًا، وحوله عدد من الجنود الملثمين بملابسهم العسكرية السوداء، يقومون بحراسته، ويعتمرون رشاشات، ما بدا أنه شخصية مهمة.
مرّ هذا الرجل بجانبي وحدّق بي، ثم تكلم مع أحد الجنود، ويبدو من توجيه الأوامر أنه المسؤول عن هذه القوة الضاربة التي داهمت المنزل. قال: هل وجدتموه؟ كانت لهجة الرجل (المهم) سعودية.
يواصل نادر القصة:
قام الجنود بإخراج أخي سمير مكبلًا بالأيدي، بعد أن داهموا غرفته في المنزل. كان نائمًا بين أسرته. صرخت: ماذا تريدون من أخي، وما الذي فعل؟ فردّ عليَّ الرجل الذي يلبس الثوب الأبيض: أخوك منتمٍ للتنظيمات الإرهابية (القاعدة). صُعقت من كلامه، فرددت عليه: لا. أخي لم يكن ينتمي لأحد، إنه مجرد شخص بسيط.
قاطع الرجل حديثي، وقال للجنود: ابحثوا عن أي متفجرات أو أسلحة داخل المنزل، فجاوبوه: الجنود لا يزالون يبحثون يا أبو نواف، ثم توجّه بسؤاله إلى سمير: هل لديك أي أسلحة. قال الأخير: ليس لدي حتى سلاحًا شخصيًا. لماذا نحتاج أسلحة والحامي هو الله.
أخذ الجنود سمير إلى أحد العربات العسكرية (طقم)، بأوامر من الرجل ذو الثوب الأبيض، والذي حدّق بابن سمير ذو السادسة عشر، وقام بسؤاله بلهجة قوية فيها من الترهيب: ما اسمك؟ جاوبه الطفل، فطرح سؤالًا آخر: هل توجد هنا أسلحة مخبأة؟ قال الطفل: لا يوجد عندنا شيء.
غادر الرجل المُقتَحِم إلى مدرعته، ومعه بقية القوة، بعد أن فتشوا المنزل، وداهموا غرفة سمير، وصادروا وثائق المنزل وأوراق أخرى تخص سمير وهاتفه الشخصي.
يقول والد سمير:
بعد أن أخذوا ابني، توجهت أنا ونادر ومنذر (اسم مستعار) ابن سمير في الصباح إلى مركز الشرطة التابع لمديرية القطن، فأخبرونا بأنه غير موجود لديهم، ثم توجهنا إلى مديرية سيئون، ومديرية الأمن هناك، ولم نجد أثره، فأمن الوادي والصحراء، ثم السجن العام (المركزي)، وفي الأخير لم نجد المدير، واكتفى أحد الحراسات بإخبارنا أنه لا علم له بشيء.
عدنا إلى منزلنا والخيبة تغلف حياتنا، والقلق يحيط بنا، على المصير المجهول لابننا، فلم يحترموا حرمة الشهر الفضيل، ولا أمه الطاعنة في السن، ولا أنا الذي لا استطيع حراكًا. مرت الأيام، ومازال مصير سمير مجهولًا. كنا عندما يطرق أحد بابنا نظن بأنه سمير، أو شخص ليخبرنا عن مصيره. عندما يرن الهاتف المنزلي تهتز قلوبنا ومشاعرنا توقًا لسماع صوت سمير أو خبر عنه، لكن كل ذلك دون جدوى.
في أحد الصباحات، أي بعد ثلاثة أشهر من احتجازه وإخفائه، إذا بالهاتف يرن، رفعت السماعة، فإذا بالمتصل سمير. شهقت وصحت بأعلى صوتي حتى تجمّعت الأسرة. أخبرني أنه بخير، ومسجون في السجن الطيني بسيئون، وطلب مني أن أبلغ الجميع السلام، ثم أقفل الخط.
لم يتمالك الجميع أنفسهم. أجهشنا بالبكاء، لقد كان صوته يملأه الحزن والأسى. وفي صباح اليوم التالي، توجهت أنا ونادر إلى قيادة المنطقة العسكرية الأولى، فمنعنا حارس البوابة من الدخول، وسألنا عما نريد، فأخبرناه. أجاب بلهجة تشوبها القسوة: ممنوع الزيارة، عودوا من حيث أتيتم.
بقينا على مسافة من البوابة وانتظرنا، لعله يرأف بحالنا ويسمح لنا بالدخول، لكن دون جدوى، فعدنا من حيث أتينا. وبعد ثلاثة أيام كررنا المجيء إلى نفس المكان، فقوبلنا بنفس الصد، وبعد محاولات لإقناع الحارس بالاتصال بالمسؤول عن سجن المنطقة، تجاوب معنا، وسمحوا لنا بالدخول بعد تفتيشنا.
دخلنا سيرًا على الأقدام، والمسافة من البوابة إلى السجن الطيني كانت بعيدة، حتى قابلنا مبنى قديم عليه حراسة مشددة. أدخلنا حارس السجن وإذ بسمير في انتظارنا. احتضناه بشوق، ونحن باكين، وسألناه عن حاله، فقال: أنا بخير يا أبي، لكنه لم يكن كذلك. سألته: لما وجهك شاحبًا، فاكتفى بالنظر إليّ ولم يُجب. وبعد برهة، عاد جندي وأخبرنا بانتهاء الزيارة.
وبحسب والد وشقيق سمير، ونقلًا عنه، فإن العربات العسكرية أقلته مكبل اليدين إلى سيئون، ثم توجهوا به إلى مقر قيادة المنطقة العسكرية الأولى، وأودعوه مبنى مهجور عليه حراسة مشددة، ومدرعتين على مدخل بوابته. ثم رموه في إحدى زنازينه، ولم يتم التحدث معه لبضعه أيام ولم يخبروه عن سبب احتجازه.
يقول سمير أيضًا، أنهم كانوا يقدمون له كمية ضئيلة من الأكل بالكاد تبقيه على قيد الحياة، ثم توالى التحقيق معه عبر لجان من وزارة الدفاع، وكانت الأسئلة متمركزة حول انتمائه للقاعدة، وعن العمليات الحربية التي نسبوها له، إلى جانب أسئلة أخرى كثيرة.
لكن الأمر لم ينته عند هذا، إذ تم إخفاء سمير مرة أخرى، وانقطعت أخباره عن والديه وأسرته. يقول الأب الحزين إنه حاول مرارًا وتكرارًا زيارته لكن في كل مرة كان يقابل بالمنع. يضيف:
ناشدنا وكيل النيابة العسكرية ووكيل محافظة حضرموت لشؤون مديريات الوادي والصحراء وقيادة التحالف والمشايخ والأعيان لمساعدتنا، لكن يتم وعدنا بالمتابعة ولم نلقى أي استجابة.
مرت أيام وشهور عانينا فيها الكثير، وبكينا على حال ابننا، وكررنا الزيارات حتى سمح لنا بعد ستة أشهر بزيارة ثانية. ذهبت هذه المرة مع والدة سمير وزوجته وابناءه. احتضن الجميع بشدة وضمهم إلى صدره وبكى، فتخالطت مشاعر الفرح بالحزن، حتى أتى من يخبرنا بانتهاء الزيارة. ومرة أخرى تم إخفاؤه قسرًا، وكان المانع هذه المرة الإجراءات الأمنية وانتشار فيروس كورونا، وظل الحال على ما هو عليه.