أثقلت الضغوطات المادية كاهل المدرس، أولاده يطالبونه باحتياجاتهم المدرسية، فيعدهم أن يحضرها، لكن المال لم يتوفر أبداً. بحث عن عمل إضافي، ولكنه لم يجد. حتى الأشخاص الذين كان يستدين منهم المال، رفضوا أن يقرضوه لكثرة ديونه.
لم يحصل ما يقرب من ثلاثة أرباع معلمي ومعلمات المدارس الحكومية في 11 محافظة على رواتبهم على مدى أكثر من أربعة سنوات. معلمون ومعلمات كانوا يقفون باعتزاز أمام طلابهم، يوفرون – بالكاد – حياة كريمة لهم ولأسرهم، جارت عليهم الحرب، فحرمتهم من رواتبهم القليلة، وتركتهم بين متسول، ومنتحر، وميت من العجز.
كما في كل مكان في اليمن، هناك في محافظة حجة ضحايا صامتون لا يعلم عنهم أحد، ولا يتقصى قصصهم وأسباب موتهم أحد، تجدون بعضاً من وجعهم الغائر في هذه السطور.
المدرس (حامد)، (اسم مستعار-39 سنة)، من أبناء مدينة حجة، وتتكون أسرته من زوجته وأطفاله الأربعة. حتى بعد انقطاع الرواتب على الموظفين والمعلمين في خريف العام 2016، استمر المدرس (حامد) في الذهاب إلى مدرسته البعيدة مشياً على قدميه، حتى لا يحرم طلابه من التعليم.
أثقلت الضغوطات المادية كاهل المدرس، أولاده يطالبونه باحتياجاتهم المدرسية، فيعدهم أن يحضرها، لكن المال لم يتوفر أبداً. بحث عن عمل إضافي، ولكنه لم يجد. حتى الأشخاص الذين كان يستدين منهم المال، رفضوا أن يقرضوه لكثرة ديونه.
أصبح المدرس (حامد) يذهب إلى عمله قبل أن يستيقظ أولاده، حتى لا يسمع مطالبهم. وفي الثامن من سبتمبر/أيلول 2019، أستيقظ أولاده قبل خروجه من المنزل، وبدأوا يصرخون ويبكون من الجوع. قال له ابنه الصغير: “أرجوك يا أبي، أحضر لنا بعض الرغيف الناشف، أو روتي ناشف، لنفطر أننا نموت من الجوع، ولنا يومين بلا أكل”.
وعدهم أنه سيذهب فوراً ليحضر لهم طعام يأكلوه، لكنه خرج ولم يعد. لقد سقط على الأرض وهو في طريقه إلى السوق القديم وفارق الحياة بما قيل إنه جلطة في الدماغ.
المدرس (حامد) ليس الضحية الوحيدة للفاقة والحاجة، فهناك أيضاً المدرس (رضوان)، (37 سنة)، من أبناء مديرية خيران المحرق.
في صباح الثلاثاء 15 من أكتوبر/تشرين الاول 2019 كانت زوجته قد غادرت مع الاطفال إلى منزل أبيها لطلب المساعدة. كان ابنه مريض بالحمى والسعال الشديد لكنه لم يتمكن من أخذه إلى الوحدة الصحية لأنه لا يملك المال. فهو معلم وراتبه مقطوع.
وفي طريقه نحو المدرسة، إذا بأحد طلابه يوقفه ليخبره بأن زوجته أخذت ابنه إلى الوحدة الصحية، لكن الطفل فارق الحياة. صدم المدرس بهذا الخبر، فأخذ يتصل بوالد زوجته. الذي أكد له أن ابنه مات من الحمى.
لم يستطع المدرس تمالك أعصابه، ذهب في ذات اللحظة إلى وداي العريض، والذي يبعد عن القرية كيلو متر واحد، وقام بشنق نفسه على فرع إحدى الأشجار الكبيرة المتواجدة في الوادي، لينهي حياته هناك.
وفي ذات السياق لمأساة انقطاع رواتب قطاع التعليم، هناك أيضاً المعلمة (سعاد – اسم مستعار) (38 سنة)، والتي تعمل في إحدى المدارس بمدينة حجة. لديها ستة أطفال، أكبرهم عمره لا يتجاوز 11 سنة.
ولسوء الأوضاع وعدم توفر المرتبات، ذهب زوجها قبل عامين، للبحث عن عمل، ولكنه لم يعد وانقطع التواصل معه حتى اليوم. أصبحت (سعاد) تحمل المسؤولية كاملة على عاتقها. إطعام الصغار، إيجار المنزل وغيرها، وهي لا تملك شيء غير راتبها المقطوع.
طرقت كل الأبواب بلا جدوى، فلم يبق لها من طريق سوى أن تذهب إلى السوق، والمحلات التجارية، لكي تتسول ثمن لقمة الخبز لأولادها. تحولت (سعاد) من معلمة إلى متسولة في الأسواق والمحلات التجارية.
وهناك أيضاً المعلمة (ابتسام- اسم مستعار) (38 سنة)، تسكن في مدينة حجة، مطلقة وتعول أسرتها وطفلتها ذات السبع سنوات من مرتبها الذي تتقاضاه من وظيفتها في سلك التربية والتعليم.
بعد انقطاع المرتبات خريف العام 2016 تضاعفت معاناتها ومعاناة أسرتها. أصيبت بورم في الرقبة وكان بالإمكان تلافي أضرار أخرى لو أنها تملك قيمة العلاج.
قامت بعض زميلاتها المعلمات بجمع مبلغ بسيط لها للعلاج. في المستشفى أخبرها الأطباء بضرورة الانتقال إلى صنعاء للعلاج، لكنها لم تتمكن من ذلك بسبب ظروفها المعيشية فتفاقمت حالتها.
وفي الثالث من مارس/ آذار 2021، توفيت في منزل والدتها تاركة طفلتها أمانة عند والدتها.
قصة مؤلمة أخرى حدثت مع (صالح) معلم يُدّرس في إحدى المدارس بمدينة حجة، والذي بسبب انقطاع الرواتب لم يتمكن من تسديد إيجار المنزل وتوفير لقمة العيش لأسرته فاضطر للعمل هو وزوجته في ذات المدرسة التي يدرس فيها.
يقوم (صالح) (40 سنة)، ببيع البطاط والبيض وبعض مواد البقالة للأطفال ومن ضمنهم طلابه، يقول إن الموقف يسبب له الكثير من الحرج، لكن للضرورة أحكام.
ويضيف: “المدرسة كانت تبحث عن عاملة تقوم بتنظيف حمامات المدرسة والادارة والفصول، فأخبرت المدير أنني أعرف امرأة محتاجة يمكن أن تقوم بهذا العمل مقابل مبلغ زهيد أحضرت زوجتي لتقوم بهذا العمل دون أن يعرف المدير وزملائي المعلمين.
يقول (صالح) “لكم أن تتخيلوا الألم حينما أرى زوجتي كل يوم في المدرسة وهي تقوم بعملية التنظيف. هذا الوضع يجعلني أبكي كل يوم، لكنها لقمة العيش وماذا عسانا أن نفعل؟ لقد أصبت بمرض السكر من شدة الهم”.
وهناك أيضاً(علي)، معلم وأب لستة بنات خمس منهن يدرسن في مدارس، في مديرية بني قيس، محافظة حجة، في صفوف متفاوتة.
يقول (علي) (37 سنة) إنه اضطر إلى إخراج بناته من المدرسة لعدم قدرته على تلبية حاجتهن من حقائب ودفاتر وأقلام ومصاريف الدارسة بسبب انقطاع الرواتب.
قصص لا تنتهي، نختمها في هذه المدونة مع معلم أخر (39 سنة) رونا لنا بقهر معاناته مع انقطاع الرواتب:
“طفلتي التي تعودت دائمًا أن تقف أمام باب المنزل في كل صباح تنتظر مني إعطائها مائة ريال مصاريف المدرسة، ثم نفترق لتذهب هي لمدرستها وأنا أذهب لمدرستي التي أدرس فيها”. يواصل وعيناه مغرورقه بالدمع:
“قلت لها يا ابنتي اليوم والله ما معي ريال ثم قبلتها على جبينها. قالت لي ” عادي يا بابا، مش ضروري”، لكنها كانت تتكلم والدموع تملأ عيونها. لم أتحمل هذا الموقف”.
ذلك كله مجرد جزء من واقع موجع تسبب به انقطاع رواتب القطاع الحكومي في اليمن، قصص تدور أغلبها خلف الأبواب المغلقة، تخنق أصحابها بصمت، ولا تجد طريقها إلى العالم.