من أجل حُلمي

"ما زلت أتذكر آخر مرةٍ احتضنته فيها، يتراءى أمامي دموع والدته، وحرارة دعواتها التي ظلّت تلهج بها منذ جاوز البيت مسافرًا إلى أن وصل إلى بلد الدراسة".

August 28, 2021
مصغر خلمي
مصغر خلمي

أخرجوني من هنا

28 أغسطس/ آب 2021

بعد عام من إنهاء دراسته للثانوية العامة في ريف محافظة حجة، طَفِقَ ناصر(اسم مستعار- 24 سنة) يُلِح في اقناع والديه بفكرة السماح له بالسفر للدراسة خارج اليمن، مدفوعًا بشغفٍ يرافقه منذ الطفولة، حتى رضخا أخيرًا لرغبته، بعد أن برهن لهما أن التخصص الذي يميل إلى دراسته قد انحدر مستواه في اليمن خلال سنوات الحرب إلى الحد الذي أصابه بخيبةٍ تحتم عليه البحث عن مكان أفضل خارج اليمن.

كانت إحدى الدول العربية خيارًا مثاليًا بالنسبة لوالد ناصر، صلاح أحمد (اسم مستعار -48 سنة)، لاعتباراتٍ عدة، أهمها أن معظم القرويين في مناطق وسط محافظة حجة، يميلون إلى التَّحفُّظ إزاء ارسال أبنائهم للدراسة في الخارج، باستثناء أن تكون منحة دراسية، أو في بلدٍ لا يغلب عليه طابع الثقافة الغربية.

بمحض أن انتزع ناصر تلك الموافقة، اندفع بحماس في ترتيب اجراءات السفر حتى أتمَّهما، وحان موعد الوداع، كان مشهدًا من العناق والعبرات، امتزجت فيه دموع ناصر بدموع والديه وكأنه آخر العهد به. ذلك المشهد الدافئ سيتحول لاحقًا إلى ندبةٍ ثكلى تغرز ميسمها في قلب وذاكرة الحاج صلاح (والد ناصر) كلما خلا بنفسه أو ضجَّ به انتظارٌ يستوحش الدقائق وهي تمر من ثقب الإبرة.

يصف صلاح أحمد تلك اللحظات وكأنه ينتزعها من قلبه:

“ما زلت أتذكر آخر مرةٍ احتضنته فيها، يتراءى أمامي دموع والدته، وحرارة دعواتها التي ظلّت تلهج بها منذ جاوز البيت مسافرًا إلى أن وصل إلى بلد الدراسة”.

هناك أمضى عامين دراسيين، تفوق فيهما وحقق علامات أبهجت والديه، وخففت عنهما ثقل غيابه عن الدار والوطن، بينما كان ناصر يتأهب لخوض سنته الجامعية الثالثة، لكن ما لم يتوقعه أن يتم تعليق الدراسة في البلاد ترافقًا مع إجراءات الحظر التي فرضتها معظم دول العالم عقب جائحة كوفيد-19، إلى أجلٍ غير مسمى.

كان ذلك كافيًا، ليمتثل ناصر لرغبه أبويه، اللذين أقنعاه بالعودة إلى اليمن لقضاء تلك الإجازة المفتوحة في أكناف عائلته، ريثما يتم استئناف الدراسة من جديد، وهو ما عزم عليه ناصر بالفعل، وقرر العودة دون أن يهجس في ذهنه أن عارضًا غير متوقع يترصده في طريق العودة.

يستدعي والد الضحية هذا الجزء من القصة ببالغ الحسرة:

“قررنا أن يعود كزيارةٍ إلى حين تبدأ الدراسة، وليتنا لم نقرر”،

لا ينفك ذلك الندم يعتريه وهو يروي تفاصيل ما حدث غداة وصول ابنه إلى مطار سيئون، في شهر مارس/ آذار 2021، لحظتها كانت آخر رسالة أرسلها الضحية إلى أبيه عبر تطبيق “واتس آب”، يخبره فيها بوصوله إلى أرض الوطن ويلقي عليه بُشرى لقائهما القريب قبل أن يختفي أثره وتنقطع أخباره عن والده، سوى من ردٍ رتيب ومكرر: “قد يكون الجهاز مغلقًا أو خارج نطاق التغطية” في كل مرةٍ يحاول الاتصال فيها.

ومضة أمل مع مضاضة ألم

بعد شهرٍ من اختفاء ناصر، وتحديدًا في 1 رمضان 1443هـ الموافق 22 أبريل/ نيسان 2021، لاح طرف الخيط عن مكان الضحية، حين رنَّ هاتف صلاح أحمد برقم مجهول.. ودون استهلالٍ أو تمهُّلٍ، صعقَه بالمفاجأة: “يا عم صلاح، ابنك ناصر محبوس في الأمن السياسي في مأرب”.

لم يكن ذلك المجهول -بحسب الأب- سوى مسافر عابرٍ، قُبضَ عليه في الحاجز الأمني المعروف بـ”نقطة الفلج”، بينما كان طريق عودته من السعودية قاصدًا أهله في المحويت، وتم احتجازه بمعتقل الأمن السياسي بمدينة مأرب، حيث يقبع ناصر مع سجناء آخرون، ومع أن مُكثَه في المعتقل لم يتجاوز 3 أيام حتى أُطلقَ سراحه، إلا أنها كانت كافية ليتعرف على ناصر ويكونا صديقين، وفرصة لحمل رسالة ناصر إلى أبيه مع الوافد الجديد، ذلك أنه أعطى للأخير رقم الهاتف الخاص بوالده، وناشده أن يهاتفه حال خروجه من السجن، ويطلعه عن مكان احتجازه لعل بوسعه  أن يعمل شيئًا ويكلف أحدًا لمتابعة قضيته لإنقاذه من المعتقل.

كان ذلك كل ما تسنى لـ  صلاح أحمد معرفته عن ابنه المحتجز، لكنه _على الأقل_ اطمئن أن ابنه ما يزال حيًا، وكان عليه أن ينتظر ثلاثة أشهر (من نهاية أبريل/ نيسان إلى مطلع أغسطس/ آب 2021)، حتى يتجدد فيه الأمل ويتهلل ببشرى سماع صوت ابنه لأول مرة منذ احتجازه في مارس/ آذار 2021، يقول:

“رنّ هاتفي، وحين فتحت الخط، سمعت صوت ابني، شعرت أن روحي عادت إليَّ مرةً أخرى، شحذت تلك المكالمة الأمل لدي من جديد، ورغم أنه أكد لي أنه بخير، لم يستطع إخفاء خيبته من تكبيل حلمه في اكمال دارسته، قال إن كل ما يريده الآن هو إطلاق سراحه ليعود إلى جامعته، يقولها بكل أسى: “من أجل حلمي أخرجوني من هنا”.

ترقبٌ للمجهول ودعوة للإنصاف

يتهم “صلاح” أجهزة الأمن التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا في مأرب، باحتجاز ابنه واخفائه قسريًا، مع ذلك لا يدري إلى الآن كيف تم احتجازه، وماهية تهمته، أو ما إذا كان قد تعرض لتعذيبٍ أو سوء معاملة في السجن، إنما يتساءل دون أن يجد إجابة:

“لا أعلم متى ولماذا وكيف وصل ابني الى سجن الأمن السياسي؟! ولا حتى ماهي التهمة التي تبرر اعتقاله واخفاؤه قسريًا، ودون إبلاغ أسرته بأيٍ من ذلك؟”.  

عدا أنه يشك أن للأمر علاقة بدورات الأون لاين التي كان يقدمها ابنه ويتطرق فيها إلى مواضيع سياسية، يقول:

“كان موضوع آخر دورة قام بها تتمحور حول إدارة الأزمات والكوارث، وحدث أن ازدلف خلالها إلى الحديث عن السياسة وعن التحالف بوصفه عدوانًا، قد يكون ذلك ربما دافعًا لاعتقاله، خاصة إذا كان لديهم علم بانتماء أخويه إلى جماعة أنصار الله (الحوثيين)”.

عديد الأسئلة تضج في رأس صلاح، وهو يرى أحلام ابنه تتلاشى كلما مرَّ يوم من عامه الدراسي، الذي يمضي وهو قابعٌ في السجن.. “خلال الأشهر الماضية قدّمت العديد من المذكرات إلى المعنين، لكنها قوبلت بالتجاهل، أصبحت منكسر القلب ومغلول اليدين إزاء هذا الوضع، وكأن من دخل السجن، انتهت حياته”، يختم والد الضحية.