وها أنا وأهلي نازحون!
لم يكن قد مر وقتٌ طويل منذ وطأت قدماي مأرب لأول مرة. وصلتها في ساعة ظهر ولم أنتظر حتى تتراكم عليّ رمال صحرائها. رحت أجوب الشوارع بخطى غريبة وأتصفح أوجه الناس فيها على عجل. وجوه شاحبة على قوارع الطريق لم تعد تعرف الرضا منذ سنوات.
اكتظت مدينة مأرب بساكنيها الهاربين من الموت الذي انفتحت شهيته جنوبًا، وغذّته أطراف النزاع هناك بكل ما يقع في طريقها دون تمييز. على إثر تدفق سيل الهاربين عرمًا إلى المدينة ومع كل دفقٍ منهم مأساةٌ ما، وكان السؤال الذي رافقهم طوال مسيرة نزوحهم هل سنعود قبل الموت أم أن الموت أصبح هو الأسرع في مارثون حرب لا تبقي ولا تذر.
تحتضن محافظة مأرب الكثير من النازحين من مختلف محافظات البلاد منذ بدء النزاع المسلح في اليمن في سبتمبر/ أيلول 2014. وعقب العمليات العسكرية المتصاعدة في المحافظة، منذ منتصف يناير/ كانون الثاني 2020 شهدت المديريات الجنوبية داخل مأرب موجات نزوح واسعة. العديد من هؤلاء الأفراد سبق أن نزحوا إلى مأرب من محافظات أخرى، والآن ها هم ينزحون من منطقة إلى أخرى، داخل مأرب نفسها.
في زيارة صباحية وافقت الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 إلى منطقة جو العُبر في مأرب، والتي أصبحت مخيمًا مستضيفًا للعديد من النازحين، التقيت سمية علي (43 سنة). تقول سمية وهي أم لأربعة أبناء (فتاة وثلاثة ذكور):
“نزحنا قبل شهر من الآن من الجديدة مركز مديرية الجوبة إلى بيت أهلي في قرية الجرشة يوم سقوط صاروخ على خط الأمداد (عربة تقل الطعام إلى مقاتلي الجبهات التابعين لقوات الحكومة اليمنية) فخرجنا وقت الظهر وقد استمرت القذائف لشهرين بالوصول إلى عزلة الجديدة، وتوقفت الدراسة منذ مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول. لم يدرس الطلاب سوى شهر سبتمبر/ أيلول فقط “.
وتضيف: “في أقل من شهر تنقلت من الجديدة إلى الجرشة إلى جو العُبر هنا في الوادي. أطفالي توقفت دراستهم، ولدي أحمد، (22 سنة) -اسم مستعار- يدرس هندسة نفط في جامعة شبوة. كان في زيارة لنا ليبقى إلى جواري هنا، لا يريد تركي ولا أدري كيف أقوم بإقناعه بالعودة إلى شبوة ليكمل دراسته.
وبعد شهر من النزوح في بيت أهلي في قرية الجرشة وقعت قذيفة بجوار البيت يوم الثلاثاء 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، فأصبحنا بما علينا خارجين لا ندري ولا نعلم أين سنذهب.
هكذا خرجنا وقت الضحى بين التاسعة والعاشرة تقريبًا مرعوبين جدًّا. رأينا البعض يهرب تاركين غنمهم في الأراضي الزراعية والمرعى. وبعد أن كنت لاجئة إلى بيت أهلي، أصبحت وهم لاجئون هنا لأحد أقارب أمي”.
أطرقت سامية في ألم وانهزام:
“أصبحت كل أحلامي أن أعود إلى بيتي الذي بنيته منذ 11 عامًا، ولكن حتى هذا الحلم تحوطه المخاوف. قد أعود فتعود المنطقة إلى خط النار مجددًا أو ربما يجر الحوثيين أبنائي إلى الجبهات فلم يعد لدي ما يبعث على الطمأنينة سوى ان أبنائي بقربي”.
“آه يا شوقي، حال الحوثي بيني وبينه”، لديها سبعة أبناء (فتاتان وخمسة ذكور)، تقول: “أنا أقيم وستة من أبنائي لدى أولاد عمي هنا في جو العُبر، وزوجي وابني هناك في جبل السَّحل حيث لدينا مزرعة ومجموعة من الحيوانات”.
والجرشة قرية صغيرة تقع بين جبلين كانت العناصر المسلحة لجماعة أنصارالله (الحوثيين) متمركزة في إحداها، بينما قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا في الجبل الآخر، حتى سيطر عليها الحوثيون بعد ذلك.
تلفظ سمية كل كلماتها السابقة وتبقي فمها مفتوحًا وكأنها تريد أن تقول شيئًا آخر لكنها تصمت، شعرت بها تجتر غُصص أوجاعها ثم تعود لابتلاعها. ربما يأسًا أو ربما كمدًا اتخذ شكل صمتٍ موارب.
وفي المنطقة ذاتها، التقيت فائزة أحمد (45 سنة)، وفي أول سؤال بادرتها به عن زوجها أجابت بتنهيدة طويلة:
“آه يا شوقي، حال الحوثي بيني وبينه”، لديها سبعة أبناء (فتاتان وخمسة ذكور)، تقول: “أنا أقيم وستة من أبنائي لدى أولاد عمي هنا في جو العُبر، وزوجي وابني هناك في جبل السَّحل حيث لدينا مزرعة ومجموعة من الحيوانات”.
قالت: “في يوم الثلاثاء 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، جهزنا سيارة بالمؤونة وصعدنا إلى الجبل بعد أن سمعنا أخبار النزوح من القرى المجاورة، بحيث إنه في المشوار الثاني ستحملنا السيارة ببقية المؤونة إلى جبل السحل لأكون أنا وأولادي وزوجي معًا في الجبل برغم وعورته، لكن لأجل الأمان، فالجبل أأمن من القرية إلا أن القذائف أقبلت فخرج الناس كلهم من الجرشة.
قطع الطريق ولم نستطع الذهاب للجبل، فغيرنا وجهتنا مع الناس إلى جو العبر، وهنا أبقيت أغراضي في هذا الحوش وابني وزوجي لوحدهم في جبل السَّحل لا أدري أخبارهم”. تقول أيضًا: “نحن حياتنا في الأرض والزراعة والمرعى، وكم ودي أن أطمئن على ولدي ورفيقي ويكونوا في أمان”.
أما نجوى محمد (35 سنة)، وتعمل صحية في مستشفى 22 مايو، وأم لأربعة أطفال فقد قالت: “خرجنا يوم الإثنين الموافق 27 أكتوبر/ تشرين الأول. استأجرنا السيارة بـ30 ألف ريال، قلنا نذهب إلى أهلنا في جو العبر إلى أن تهدأ الحرب بعد أن شاهدنا ما حدث في منطقة الجديدة (مكان عملها هي وزوجها).
أتينا بأقل الإمكانيات إلى بيت أخت زوجي وفي اليوم الثاني نزحت القرية بأكملها وأتاني خبر القذيفة التي وصلت إلى بيتي وتضرر معظمه”. تبكي نجوى وتقول: “أحمد الله على سلامة أرواحنا. كنت أقول يا رب ردنا بلادنا لكن اليوم أتسأل إلى أين بعد أن أصبحنا بلا بيت. أعيش أنا وأخت زوجي وأطفالنا كلنا في هذه الغرفة. كثر الله خير الناس استقبلونا”.
في زيارة أخرى إلى المنين (الجفينة) في يوم الإثنين الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، قابلت فائزة علي العجي (55 سنة) من جبل مراد، تقول:
“نزحت يوم الأحد 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، خرجت في العاشرة ليلًا أنا وعائلتي وماشيتي. تفرقنا؛ أسرتي في المجمع وأنا هنا في المنين (الجفينة) أرعى الماشية. خرجنا ليلًا بسبب الخوف والقصف، أول مرة أفارق بيتي، خرجنا ونحن نسمع صوت الرصاص والضرب، لكن خفنا يحاصرونا مثل العبدية”. هي الأخرى انحصرت أمنياتها في العودة إلى بيتها.
من جانبها، تقول خضرة علي مفتاح (23 سنة): “أمي وإخوتي جاؤوا إلى المجمع في يوم السبت 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، فقط من أجل معالجة والدتي وعند العودة أقفل الطريق عليهم. لا طريق اليوم إلى قريتنا في جبل مراد. هم في المجمع وأبي لوحده في جبل مراد”.
فرقنا؛ أسرتي في المجمع وأنا هنا في المنين (الجفينة) أرعى الماشية. خرجنا ليلًا بسبب الخوف والقصف، أول مرة أفارق بيتي، خرجنا ونحن نسمع صوت الرصاص والضرب
غادرتهم وفي رأسي تتقاطع المشاعر بالأسئلة: كم سيدوم شقاء هؤلاء والآلاف مثلهم على الأرصفة قبل العودة إلى دفء المنزل والجدران؟ إلى متى ستمتد مرارة العدم الذي يدورون في رحاه منذ أول لحظات النزوح؟ إلى متى سيلفظون الدموع التي ترافق خطواتهم نحو المجهول الذي يتسع كل يوم؟
عدت إلى غرفتي وخالجتني المشاعر المتضاربة من كل صوب، أهنا مأرب حيث معبد أوام وسدها العظيم؟ ألم أكن أحلم في العاشرة من عمري أن آتي إلى هنا يومًا ما لأستشعر البناء والعمار والانفراد والحلم؟
وها أنا اليوم على مقربة من حضارتها العظيمة محوطة بكل هذه الوجوه المتعبة من سنوات الحرب العجاف وأثقالها وأوزارها. رحت أتصفح على عجل ما تقذفه صفحات الفيسبوك على وجهي من مواجع حين وقع نظري على بيان أطلقته منظمة مواطنة حول مأرب.
قالت مواطنة في بيان لها مؤخرًا، إنها وثّقت هجمات برية وجوية وزراعة ألغام، ارتكبت من قبل جماعة أنصار الله (الحوثيين) وقوات التحالف بقيادة السعودية والإمارات وقوات الحكومة المعترف بها دوليًّا. تسببت تلك الهجمات في موجة إضافية من الأذى للمجتمع الكبير من النازحين داخليًّا الذين يعيشون في مأرب.