ليكن النشر مسؤولًا لا موظّفًا في سياقٍ عبثيّ وكيديّ!
عبدالرشيد الفقيه
في مختلف مستوياته وأشكاله، يتطلب التعامل، المؤسسيّ والفرديّ على حدٍّ سواء، مع الضحايا والقضايا- حساسيةً عالية، تحتكم لقواعد مهنية وأخلاقية صارمة لا مساحة فيها للارتجال والمزاجية والخفة؛ تتأسّس على مبادئ وأسّس، على رأسها اللاضرر والمصلحة الفضلى للضحية، والدقّة والموضوعية، والمسؤولية، ولا يمكن أن يحقّق أيُّ تعاملٍ من قبل المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام والناشطين على شبكات التواصل، الأثرَ الإيجابي المنشود لصالح أي ضحية أو قضية أو قيمة، ما لم يلتزم بتلك المبادئ والأسس والشروط.
في التفاعل مع القضايا الحقوقية والإنسانية المتعلقة بالنساء والأطفال والفئات الضعيفة، بشكل خاص، قد لا يتوقف عدم الالتزام بتلك المبادئ والشروط، عند عدم تحقيق الأثر الإيجابيّ المنشود وحسب، بل يتعدّى ذلك إلى إلحاق الضرر البالغ بالضحايا، ويزيد إلى معاناتهم أشكالًا إضافية من الأذى، لا تقلّ في آثارها عن الانتهاك الأصليّ المُعلن مناهضته.
في جميع القضايا الحقوقية والإنسانية، ثمّة سلسلة طويلة من العمليات والتدخلات الملائمة لتحقيق صالح الضحايا والقضايا، ليس شرطًا ثابتًا أن يكون النشر والتداول أحدها، فضلًا عن أن يكون على رأسها، وقد يكون النشر وَفقَ خطة مناصرة، لاحِقًا لخطوات عملٍ فعّالة ومدروسة- أحدَ حلقات تلك السلسلة، وَفقَ ترتيب لخطوات وآليات عمل، تختلف من قضية لأخرى، ومن ضحية لأخرى، ومن ظرف لآخر، وفقَ تقدير متجرد ومسؤول، مسنود بموافقة مستنيرة للضحايا، لتحقيق المصلحة الفضلى للضحية.
وممّا يجدر إدراكه وامتثاله، عند تعدّد التقديرات وتضاربها، بين الضحية وما يقابله من متفاعلين، كيانات وأفرادًا، أنّ تقدير الضحية واختياراته في كيفية العمل على قضيته، واجبُ النفاذ، مع حظر أيّ شكلٍ من المصادرة والتغرير والاحتيال، بزعم تحقّق المصلحة في خيارات وتقديرات أُخرى.
ومهما بلغت في عمقها وقوتها ونقائها وجدّيتها، فلا تكفي الدوافع النبيلة والصادقة، للإعفاء من المسؤولية تجاه أثر كل تفاعل وتعامل، فرديّ أو مؤسسيّ، مع القضايا الحقوقية والإنسانية، حيث يصبح كل تفاعل، مهما بدا ثانويًّا أو تفاعليًّا أو لاحقًا، فعلًا أصيلًا ومستقلًّا في أثره المُضِرّ أو النافع، متضافرًا مع تفاعلات أخرى، أو منفردًا عنها، وهو ما يفرض على كلّ مهتم بالتفاعل والتعامل مع ذلك النوع من القضايا، التبصرَ والمعرفة والوعي واليقظة، ليكون تفاعلًا مسؤولًا وخلّاقًا، لا تفاعلًا موظفًا، دون وعي، في مساقٍ عبثيّ أو كيديّ، لصالح فردٍ أو جهة أو غير ذلك.
ومن الأسئلة اللازم إدراك إجاباتها وإثارتها واستحضارها، قبل أيّ تفاعل مع أي قضية أو قصة:
هل ما هو متداول ومعروض للتفاعل، يتأسس على موافقة مستنيرة لصاحب المصلحة/ الضحية/ الأسرة، وَفقَ تقديرٍ دقيق ومتجرد؟
ما مدى دقة وموضوعية وشمولية المعلومات والتوصيفات، فيما هو معروض للتداول والتفاعل؟
هل تستند تلك المعلومات والتوصيفات إلى مصادر حقيقية وذات صلة بالقصة؟
هل يساهم التفاعل في تحقيق مصلحة الضحية ولا يلحق أيّ ضرر إضافيّ به؟
هل هذا التفاعل الذي سأشارك فيه هو التفاعل الصحيح، من حيث ترتيبه في سُلّم الخطوات اللازمة للعمل على أيّ قضية حقوقية أو إنسانية؟ وكذلك: توقيته، مكانه، شكله، ملاءمته لنوع القضية، ملاءمته للضحية ومصلحته؟
هل هناك أيّ أبعاد غائبة أو مغيبة عن القضية قيد التداول؟
إجمالًا؛ ومن هذا الاختبار الصغير جدًّا، والمهم جدًّا، ومثله الكثير من الاختبارات الصغيرة والكبيرة، يمكن القول بيقين، إنّه ما لم تتخلّق أداءات جديدة في كل جانب وكل مجال، تقوم على أسس ومعايير جديدة، تختلف كليًّا عن المعتاد من الأداءات غير الكفؤة في مجتمعاتنا، فإنّ نقد أداءات البُنى والكيانات والأفراد القائمة، مجرد تنطعٍ فارغ، بلا قيمة ولا معنى ولا أثر.