لقد كانت ليالٍ طويلة وكئيبة
لطالما كنا نتشاجر أنا وأختي على من تأخذ جهة النافذة المحاذية لحافة السرير، لنستغرق في النوم مع الهواء البارد وحفيف الشجر.
كنّا لا نحمل همًّا سوى أن يظل لَمّ الشمل بيننا قائمًا، حتى جاءت حرب 2015، فانسحبنا عن النوافذ يومًا عن يوم، إلى ذلك الحضن الجماعي في ظلّ الظلام وأصوات الطائرات ودويّ القذائف. يرحل الباعة على غير عادتهم مبكرًا وأصوات الأطفال الذين يلعبون وتتعالى أصواتهم في باحة الحي كانت تتلاشى تدريجيًّا، فلم نعد نشمّ رائحة الخبز ولا أصوات أبواق السيارات ولا مشاغبات الأطفال.
هكذا حدثتنا إحداهن خلال تجمّع نسوي كنت حاضرة فيه، وكانت تقص حكايتها بحماس، وشدّ انتباهي تأثرها الشديد، وكأن ما حدث لها وقع بالأمس، فتدخلت، باعتباري عاملة في المجال الحقوقي، لأحفزها على تذكّر التفصيل، ثم استأذنتها لكتابة قصتها ونشرها، فوافقت، وتابعت تقول:
لم أكن أتخيّل أنّني سأعيش في غير مدينتي وشارعي وحارتي وأصدقائي ومنزلي الذي كان في مديرية المظفر بمدينة تعز، حيث قضيت طفولتي وشبابي، وشهد كلَّ مراحل نضوجي من حزن وفرح ومرض. كُنّا قد عدنا من مدينة عدن عقب الانتهاء من عرس ابنة خالي.
هكذا عُدنا إلى ما اعتبرناها حياة عادية وطبيعية. وفي ليلةٍ وبينما كنّا ننام في سلام؛ صحونا على صوت اهتزاز وحطام زجاج النوافذ، وأضواء حمراء ملأت أرجاء المدنية، لم نكن قد استوعبنا بعدُ ما الذي يحدث، إلَّا أنَّني توجهت مُسرِعةً إلى إخوتي الصغار، واحتضنتهم، وتوجهنا جميعًا إلى الغرفة الداخلية التي لا تطل على الشارع.
كأننا كنّا في يوم المحشر، إذ بصاروخ يضرب المكان، فيحلّ الظلام الدامس وتنقطع الكهرباء. لم نكن نسمع إلَّا صوتَ انطلاق الصاروخ ومِن ثَمّ انفجاره على الجبل، يصاحبه صوت النساء والأطفال يصرخون من داخل المنازل في الأسفل، إذ انهارت بعض الصخور ووقعت عليها.
هرب بعض السكان دون أن يتمكّنوا حتى من ارتداء ملابسهم، في مشهدٍ مهول يشبه القيامة. كنّا نظن أنّ هذا القصف لن يستمر، هي أيام وسينتهي، وفي ذلك اليوم لم يستطع أحدٌ مغادرة المنزل تخوّفًا من قصفٍ محتمل.
تم قطع الاتصالات عن المدينة إلى جانب الكهرباء، وبعد يومين تحوّل القصف إلى مناطق أخرى. كان الوقت حينها بداية مارس/ آذار 2015، وطال القصف منطقة قريبة من منزل عمي الذي نال نصيبًا منها، لكن لم يتأذَّ أحدٌ من أسرته، وفي اليوم ذاته نزحوا إلى منزلنا، الذي بدا وكأنه آمن، على الأقل من قصف طيران التحالف.
تجمّعنا في المنزل؛ الأولاد في الغرف العلوية، ونحن النسوة في الدور الثاني، والرجال في الدور الأول، ومع مرور الأيام تمكّنت جماعة أنصارالله (الحوثيين) من السيطرة على بعض المناطق خارج المدينة وبدأ الحصار يشتد، فلا ماء ولا كهرباء، وكلما كانت المنازل مرتفعة عن المدينة، كانت أسعار المياه مكلفة، هذا إلى جانب انعدام الدقيق والخضروات والفواكه، التي لم يُسمح لها بدخول المدينة، ما اضطرّ أبي للذهاب إلى منطقة بير باشا لجلبها.
مع كلِّ يومٍ يمرّ، يشدّد الحصار الخانق قبضته أكثر، حتى أصبحت المدينة بمثابة قرية مهجورة، وبدأت ملامح المجاعة تظهر لدى أغلب الأسر، فقرر بعضٌ من أفراد عائلتي النزوح إلى محافظة إب ومِن ثَمّ إلى صنعاء، ولم يبقَ في المنزل سوى والدي ووالدتي وأنا وإخواني الصغار. لقد كانت ليالٍ طويلة كئيبة.
ذات يوم، وكان موعد عودة والدتي إلى الطبيب لمتابعة علاجها، ولأنّ المدينة محاصرة، أغلقت العيادات أبوابها، ونفد العلاج من الصيدليات، فاضطررنا إلى التواصل مع أختي في صنعاء، وشراء العلاج رغم سعره المرتفع، وإرساله مع أحد المسافرين، أو بعض مكاتب النقل والتي كانت على وشك إغلاق أبوابها هي الأخرى.
انقطع التيار الكهربائي أولَ ثلاثة أيام بداية شهر أبريل/ نيسان 2015، كنّا نظن أنّها ثلاثة أيام ثم ستعود، لأنّ أبي لديه أدوية من الضروري أن تُحفظ في درجة برودة معينة في الثلاجة، ولكن الكهرباء ذهبت إلى غير رجعة، ففسدت الأدوية. مرت أول عشرة أيام ونحن بين اهتزازات منازلنا العتيقة، تتكسّر النوافذ وتتناثر.
ومع الانقطاع الدائم للكهرباء، تحوّلنا إلى استخدام المولّدات الكهربائية لمدة ساعتين يوميًّا لنتمكن من شحن هواتفنا الخلوية، وشحن بطارية التلفاز قليلًا ليتسنى لنا متابعة الأخبار، لأنّ هذا الصندوق هو مصدرنا الوحيد لمعرفة أحوال العالم الخارجي، ثم واجهنا مشكلة أخرى؛ انعدام الغاز المنزلي، فلجأنا إلى الحطب.
كنّا أنا وأخواتي نقوم بصناعة الخبز، فأمي لم تعد تحتمل الدُّخَان، بينما إحدى أخواتي تشكو من الربو. ذات مرة وبينما كنت أوقد النار على سطح المنزل، هطل المطر فأطفأ علينا النار، التي كنت سأعدّ بها فطور أسرتي. لكن لا أسى في الأمر؛ إنّه المطر الذي يشعرنا بالفرحة والطمأنينة.
تحوّلنا إلى تنظيف السطح بدلًا من إعداد الفطور، وحوّلنا المزاريب إلى خزان المنزل، لنستخدم هذه المياه في غسيل الملابس والتنظيف، بينما كنّا نعتمد على المياه التي تباع في البقالات للمأكل والمشرب، ويومًا بعد يوم، تصبح حياتنا أكثر صعوبة. فكّرنا بالنزوح إلى مدينة عدن، لكن كانت هي الأخرى تنزف، وفي إحدى الليالي توجّه لنا والدي بالسؤال: هل تردن النزوح؟ فأجبنا: لنعِش سوية أو نموت سوية.
تقادمت الأيام أكثر، وفي إحدى المساءات 22 مارس/ آذار 2016، وقبل أذان المغرب، وبينما كنتُ في غرفة الجلوس التي تطل نوافذها على الشارع، إذ بقذيفة تضرب المنزل الذي يجاورنا، اهتزّ منزلنا مرة أخرى، وكأنه وقع في مجال زلزال. هرع والدي ووالدتي مسرعين إلى الغرفة، لأنهم كانوا على علم أنّني هناك.
كان والدي يصرخ بشدة، ومنعنا من أن ندخل الغرف المطلة على الشارع. لكن اليوم الذي لم أستطع أن أنساه، كان منتصف مارس/ آذار 2015، وهو الذي قتل فيه عمي برصاصة قناص في رأسه بمنطقة بير باشا، عندما ذهب لجلب الغاز لبناته، وقد كان لهن السند والأب والأخ.
قُتل عمي، وغادرت بناته المدينة، وخلفْنَ وراءهنَّ حياةً تعيسة أنتجتها الحرب. أمّا بالنسبة للقصف فكان يتوقف يومًا أو يومين، بينما تبدأ الحركة تدبّ في المدينة ويغادر الناس منازلهم، ثم يستأنف هذا السلوك الغادر ممارساته، ودون نذير. أيضًا هجمات طيران التحالف هو الآخر كان عاملًا مسبِّبًا للقلق الشديد، إلى جانب انتشار القناصة فوق التباب.
في منتصف أبريل/ نيسان 2015، أصيب والدي بشظية في عينه اليمنى، عندما دخلت رصاصة من نافذة غرفته. كان ينزف، ووقفنا عاجزين أمام ما يحدث، بالرغم من أنه حاول أن يتماسك ويخبرنا أنه سيكون بخير، لأجل ألّا ننهار. هذا الجزء لم يفارق مخيلتي إلى يومنا هذا.
قمنا مسرعتين أنا وأختي بأخذ أبي إلى مستشفى كان مزدحمًا ومليئًا بالجرحى والمصابين. كانت الدماء متناثرة في كل الأرجاء، ويحاول الأطباء والممرضون معاينة الجرحى وعلاجهم في الحوش. كنتُ أدعو من كلّ قلبي أن نعثر على طبيب غير منشغل ليعالج أبي، وتمنّيت أن يكون كلُّ ما نمرّ به مجرد كابوس.
في صباح عيد الأضحى (2015)، وبينما المصلون يتوافدون إلى ساحة المدينة للصلاة، بدأت القناصة باستهدافهم، ومن كلِّ اتجاه. كنّا عندما نريد أن نتحرك في غرفنا، ننبطح أرضًا أو نمشي زحفًا مثل الدواب. نعم، لقد حوّلت الحرب حياتنا إلى هذا الشكل البدائي من العيش، كنّا ننام بعد صلاة العشاء ونصحو على صلاة الفجر، وكل يوم أسوأ من سابقه، كنتُ أحاول أن ألوذ بالقراءة، وخاصة الروايات، حتى أنسى أو أتناسى ما نحن عليه، لكن مع الأسف لا مفرّ من واقع أنت فيه.
مرت الأيام ونحن مستمرّون على الحال ذاته؛ لا مياه ولا موادّ غذائية تدخل المدينة، ولا أي بوادر لانفراج أو سلام، والقذائف تتساقط علينا كالمطر، وتتعالى أصوات النفير والمشافي وإعلانات البحث عن متبرعين بفصائل الدم وتكبيرات المساجد، ولأنّه لم يعُد هناك متسعٌ للحياة، قررنا الرحيل.
بعد مرور أكثر من سنتين، سيطرت قوات ما تسمى بـ”المقاومة الشعبية” الموالية للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا على جبل صبر، وطردت القناصة منه، فخفَّ إطلاق النار علينا نوعًا ما. لكن في عام 2017، وبينما كانت أختي فوق سطح المنزل تجلب الماء، إذا بسبع قذائف تضرب المدينة مجددًا؛ قذيفتين سقطتا في حارتنا، وبعد انتهاء هذا القصف البري سألَتْ أمي عن أختي، فصعدتُ مسرعة إلى السقف، فوجدت أختي تترجل السلم ومصابة في يدها، بشظية. كانت إحدى القذائف قد اصطدمت بحائط منزلنا.
بعد خروج “الحوثيين” من عدن، كان وضع مدينة تعز يتجه من سيئ إلى أسوأ، فقررنا أنا وأخواتي أن نتحدث إلى والدي، بأنّنا نودّ أن نغادر إلى عدن، فوافق. سافرنا إلى هناك، لكن بمفردنا، إذ قرر والدي البقاء، وصباح اليوم التالي، حزمنا أمتعتنا على أمل العودة قريبًا بعد انتهاء هذه الحرب اللعينة.