البلد المتنوع في قاعة

"إرث البارود "الذي مكنني من إعادة اكتشاف اليمن

September 22, 2024

محمد عبد الوهاب الشيباني

 

في سبتمبر/أيلول من العام 1987، حضرت جزءًا من فعاليات المؤتمر العام الرابع لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، بدافع فضول يتلبس شابًا في الحادية والعشرين من عمره، يتحسس طريقه في عالم الكتابة. وما أثار انتباهي وقتها تلك الألسن المتنوعة التي تتحدث في قضايا شتى، تتصل بهموم منتسبي الاتحاد الموزعين على خريطة اليمن الطبيعي، قبل التحاق شطريه بثلاثة أعوام، وأنا الذي لم أكن أعرف سوى لهجات قليلة من لهجات اليمن في التداول اليومي مثل لهجات تعز وإب وصنعاء وعدن، حيثُ لم تزل ارتدادات كارثة يناير 1986 حاضرة في نقاشات أعضاء المؤتمر. ولم أزل أتذكر اعتراض أديبة معروفة من الضالع على عدم وجود صورة عبد الفتاح إسماعيل ضمن صور فقداء الاتحاد التي كانت تغطي جدران قاعة مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء، باعتباره شاعراً ومثقفاً، إلى جانب دوره الداعم لقيام الاتحاد مطلع السبعينيات، حينما كان أحد القادة البارزين في سلطة الحكم في الشطر الجنوبي من الوطن (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية).

وابتداءً من المؤتمر السادس الذي انعقد بذات القاعة في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1993 (عشية حرب صيف 94)، صرت أحد الناشطين في لجان المؤتمر وعضوًا دائمًا فيها بحكم وضعي النقابي في الاتحاد. وكنت في كل مرة أعيد اكتشاف اليمن المتنوع وهموم أعضاء الاتحاد حيال المسألة الوطنية والتحديات والمخاطر التي تتربص بها من قبل تجار المشاريع الصغيرة وسانديهم في الإقليم.

في المؤتمر العام العاشر الذي احتضنته مدينة عدن في مايو/أيار 2010، ظهرت جليًا حالة الانقسام الحاد بفعل انسياق البلاد إلى مشروع الفوضى والتذرر، بعد أن غدت السلطة جملة من المغانم للمتنفذين فيها، وخلقت حالة الانسداد الكبير التي قادت إلى حالة الربيع في فبراير/شباط من العام 2011، وما تلى ذلك من حالة فوضى، ثم الانقلاب على مخرجات مؤتمر الحوار الوطني واقتحام الحوثيين لصنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، قبل عشرة أعوام، ليصنعوا مقدمات حالة الحرب التي لفت البلاد كلها، وما ترتب عليها من انهيار مؤسسات الدولة وتفكك التراب في عموم الجغرافيا.

بعد أكثر من عشر سنوات من المؤتمر العاشر للاتحاد، وفي ذروة الحرب، شهدتُ حضورًا يمنيًا متنوعًا في فعالية ثقافية كبرى انعقدت في سبتمبر/أيلول 2021، وهي الورشة الختامية لدراسة الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية التي قام بتمويلها رجل الأعمال الراحل علوان الشيباني. حضر إليها باحثون متخصصون من أرجاء اليمن شمالها وجنوبها وشرقها وغربها، في نشاط كنت أظنني لن أحظى بمتابعة مثيل له في المدى المنظور الذي تشهد فيه اليمن حالة من التذرر والتشظي القاتل بسبب حالة الحرب القائمة وارتفاع منسوب خطاب الكراهية التي تغذيه أطراف النزاع لفرض منطقها التشطيري لتبرير استحواذها على السلطة والموارد عبر القوة العسكرية والقبضة الأمنية وتواطؤ الرعاة.

جاء مؤتمر "إرث البارود" الذي نظمته "مواطنة" لحقوق الإنسان خلال يومي الأربعاء والخميس 11-12 سبتمبر/أيلول 2024 ليكسر ذلك الاعتقاد لدي حينما أعدت رؤية اليمن المتنوع مرة أخرى في حالته الحقوقية، في القاعة الصغيرة الأنيقة في مقر المنظمة وخارجها، حيثُ احتشد أكثر من مائة يمنية ويمني من أجيال ومناطق وشرائح مختلفة (من سقطرى والمهرة وحضرموت وشبوة والجوف وعدن وتعز وصعدة وعمران والمحويت والضالع والحديدة وأبين وريمة وذمار والمحويت وغيرها)، بالإضافة إلى العشرات ممن تواجدوا في خمس قاعات في عدن وشبوة وتعز وسيئون، ارتبطت بقاعة المؤتمر الرئيسية في صنعاء. حضر أيضًا مجموعة كبيرة من الناشطين للمشاركة في هذا المؤتمر الذي كان من أجمل ما فيه عدم وجود حضور رسمي من وجاهات سلطات الأمر الواقع، وعدم التأثير في وقائعه.

لقد كنت ضيفًا على المؤتمر بصفتي ولم أكن أعرف في البداية من الحضور إلا الأصدقاء في قيادة مواطنة والشخصيات البارزة المدعوة أمثال الأستاذ عبد الباري طاهر، والدكتور حمود العودي، والأستاذ عبد الرحمن الغابري. لكني تفاجأت أيضًا بالعديد من الأدباء والمثقفين والأكاديميين والصحافيين الذين جمعتنا لقاءات متباعدة فيما مضى أو جمعتنا القراءات والمتابعة عبر الصحافة والفضاء الأزرق والمطبوعات، إلى جانب صحافيين وكتّاب شبان (من الجنسين) الذين تصلني كتاباتهم لنشرها في منصة "خيوط" بصفتي رئيسًا لتحريرها.

في المداخلات والنقاشات التي كانت تفتح عقب فقرات برنامج المؤتمر (من دراسات وعروض وشهادات حول الاختفاء القسري وانتهاكات أطراف الصراع وضحايا الألغام ومتطلبات الإصلاح في قطاعي الأمن والقضاء، ومخاطر الانقسام)، كنت أسمع اليمن بتعدد لهجاتها التي تشرح الوضع وتقترح الحلول وتشير إلى الانتهاكات والفاعلين فيها بدون وجل أو خوف، بالإضافة إلى حضور ممثلين عن مجتمع المهمشين والفئات الضعيفة والهشة، من مناطق متفرقة من اليمن، الذي كان له نكهته الخاصة التي أضفت على أجواء المؤتمر حالة رائعة في النقاش وعرض هموم هذه الفئات ومظالمها الكثيرة والمتصلة.

في النقاشات الجانبية وفي الاستراحات بين الجلسات كنت أنصت لروح اليمن في أحاديث المشاركين الذين قدموا إلى صنعاء، وفي حساباتهم أيضًا الكثير من مخاطر التنقل بين المحافظات التي تفرضها سلطات الأمر الواقع، ومنها الاعتقال أو المنع، لكنهم جاؤوا، وهم الذين كان باستطاعتهم حضور الجلسات في الغرف الافتراضية في المدن الأخرى، التي حضرها زميلات وزملاء لهم وعرضوا من خلالها أفكارهم المتنوعة، والتي هي الأخرى كسرت حاجز الخوف من تعديات أجهزة القوى المتحكمة فيها.

التهنئة للأصدقاء في قيادة مواطنة والعاملين فيها على نجاح المؤتمر، والذي تحتاج مناشطه المختلفة والمميزة والجريئة لتوقفات قرائية أكبر.