لا يعرف معاناة المسافرين في تعز، إلا من يمر بهذا الطريق الملتوي الصاعد الضيّق، سواء ما تخلفه وعورة الطريق من غثيان ودوار، أو الغبار الذي يلفح الوجوه، أو التوقفات الطويلة نتيجة ضيق الطريق وصعوبة مرور السيارات الداخلة والخارجة بجانب بعضها في الأودية والشعاب والأماكن الصخرية الضيقة.
يحتاج السفر من مدينة تعز إلى صنعاء، تنسيق مسبق، خاصة وأنك تعيش في وسط مدينة محاصرة إلا من اتجاهها الجنوب غربي.
في البداية، يجب التواصل مع أكثر من سائق سيارة أجرة، أو ما يدعى في تعز بـ(الطَبَل)، لتقصي إمكانية خروجهم، خاصة وأن الأمر لم يعد سهلاً كما هو الأمر قبل الحرب.كان الطريق من مدينة تعز إلى منطقة الحوبان، يأخذ فقط من 10 دقائق إلى 15 دقيقة على أكثر تقدير، وأصبح الآن يأخذ من وقت السائق نهاراً كاملاً، يحتاج بعده أن يأخذ استراحة قبل أن ينطلق في اليوم التالي إلى مدينة أخرى، أو يعود في ذات اليوم إلى مدينة تعز قاطعاً مسافة 62 كيلو متر.
وفقا لذلك، يجب أن تبدأ مكالمتك فور إعلامك بضرورة السفر، لتعرف موعد مغادرة السائق الذي ستستقل سيارته، وهل سيغادر إلى صنعاء، أم سيكتفي بالبقاء في منطقة الحوبان.
كانت وسيلة النقل التي ستقلني هي حافلة “هايس”، أخذتني عند الـ03:00 فجراً، ثم بدأ السائق بمهمة جمع الركاب من أماكن متفرقة داخل المدينة، إلى جانب دقائق من الانتظار، وترتيب متاع المسافرين فوق سقف الحافلة، وترتيب الأماكن الخاصة بالنساء.
بدأت الحافلة عند الـ06:00، بالتحرك جنوباً، بدلاً من أن تتجه شمالاً في الأوقات الطبيعية، أي باتجاه وادي الضباب ومنطقة نجد قسيم، وكان أول توقف لها لتناول وجبة الإفطار لمدة ربع ساعة، قبل أن تشرع بالصعود إلى الطريق الوعر الصعب: الأقروض.
والأقروض، طريق ترابية جبلية وعرة، تبعد عن المدينة (35 كيلومتراً تقريباً)، وتسلكها العربات عنوة، كبديل قسري لإغلاق المنافذ الرئيسية المؤدية إلى مدينة تعز المحاصرة من قبل جماعة “أنصارالله” الحوثيين، منذ إشتداد المواجهات في بداية مايو/ أيار 2015.
لا يعرف معاناة المسافرين في تعز، إلا من يمر بهذا الطريق الملتوي الصاعد الضيّق، سواء ما تخلفه وعورة الطريق من غثيان ودوار، أو الغبار الذي يلفح الوجوه، أو التوقفات الطويلة نتيجة ضيق الطريق وصعوبة مرور السيارات الداخلة والخارجة بجانب بعضها في الأودية والشعاب والأماكن الصخرية الضيقة.
كانت الحافلة تتوقف كل ربع إلى نصف ساعة، بسبب الشاحنات الكبيرة التي تحمل المواد الغذائية الأساسية للمدينة. وفي ظرف أكثر مأساوية يتوقف طابور طويل من المركبات لمدة ساعة أو أكثر، حتى يتمكن متطوعين منهم، بتنظيم مرورها وإخلاء الطريق بطريقة معقدة طويلة، ثم يأتي دور الشمس التي قاربت منتصف السماء، وقد حاول الجميع تحاشي سياط حرارتها بالنهوض باكراً.
ستشاهد مرور الشاحنات بثقلها وبحمولتها في مناطق ضيقة مائلة، حتى لتتخيل أنها ستقع على جانبها على الحافلة التي تستقلها، أو على أقل تقدير ستلامسها.
يضاعف من هذه المشقة، انتشار نقاط التفتيش التابعة لمسلحي جماعة “أنصارالله” الحوثيين المحاصرين للمدينة، أو لقوات الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، على إنهم مقسمين هذا الطريق بالانتصاف بينهما.
وبرغم العداء الذي يفرق الطرفين، إلا أن هناك ممارسات يشتركون فيها، من ذلك ظاهرة الإبتزاز المالي للمارة، وهناك أيضاً، من السكان القرويين الذين يجدون في المرور من أريافهم الجبلية فرصة للتسول بطريقة مختلفة من خلال التظاهر بإصلاح الحفر والمطبات الترابية، مقابل عائد مالي مأمول.
أطفال يحملون ملامح بارزة وجمال لافت، لكن الحياة أقسى من أن تجعل المرء يحتفظ بجماله وألقه، لتصير إلى نوع من الشحوب، الذي يحمّله سنين مفترضة أخرى فوق القليلة التي باغتته.
تصل أخيراً إلى الطريق الاسفلتي عند قرابة الحادي عشرة ظهراً في أحسن الظروف وتبدأ تلتقط أنفاسك، تعدل من جلستك، وتعدّل هيئتك التي عبثت بها طريق ضارية، أجبرك أحد أطراف الحرب أن تسلكها، وبما يشبه العقاب الجماعي على المدنيين، للخيارات التي أرادونها لحياتهم ومستقبلهم.
في هذا الجزء من الرحلة، لاشيء يثير انتباه المرء، فالأرض تعود لتكون منبسطة بعد ساعات من الدحرجة والتأرجح، راحة يعززها الصوت الشجي للفنان أيوب طارش المنبعث من مسجل الحافلة، ليبث في النفس دفقة حب لهذه الأرض رغم بؤسها!
وهنا يكون قد تم قطع المسافة إلى محافظة إب الخصيبة (شمال مدينة تعز)، حيث يبدو كل شيء على ما يرام، باستثناء نقاط التفتيش الأمنية التابعة لجماعة أنصارالله (الحوثيين) في المداخل الرئيسية للمدن، والاسئلة التي من تكرارها صارت في حكم العادي من أين أتيتم؟ والى أين تذهبون؟
نواصل السير صعوداً الى صنعاء، وعلى مدخلها يكون المسلحون في النقاط الأمنية، أكثر صرامة وتشدداً، حيث تم إيقاف السيارة، وتفتيش جميع أغراضي. وقد يكون قدومي كامرأة لمفردي ” بدون محرم ” أثار شكوكهم. استغرق هذا الأمر مني خمس دقائق، قبل أن يسمحوا لي بالدخول. يشارف الوقت على الساعة الثامنة مساء ونحن على ضواحي صنعاء، ثم تنهيدة: أخيراً وصلنا.
قبل الحرب، إن غادرت مدينة تعز فجراً فيفترض أن تستقبلني صنعاء صباحاً، لكنها الثامنة مساء الآن، ولكبر المدينة وازدحامها، تأخذ الحافلة ساعتين من الدوران في الشوارع لإيصال الركاب إلى مقاصدهم، أي حتى العاشرة والنصف مساء، أكون قد وصلت إلى المنزل الذي سأقيم فيه خلال فترة عملي في صنعاء. أحس بمفاصلي متصلبة وقاسية مثل حديد الخرسانة، وقدماي أفردهما بصعوبة.