الحُديدة.. موت لا يحتاج إلى مقاتلين

أجسام متفجرة وعوز

August 18, 2022

في كلِّ مرة نسمع فيها بوجود طفل في مشفى نتيجة تفجّر لغم أو أجسام متفجرة، ندرك حجم المعاناة التي تلحق بالطفولة وبالأسر اليمنية التي تكابد عناء الحرب وآثارها الاقتصادية.

نزار (تسع سنوات)، على صغر سنه، تحمل عناء توفير لقمة العيش لأسرته في ظل النزوح وتراكم مديونيتها وغياب المعيل البالغ، والتي لا تعرف العائلة أين هو الآن. وتتحمل الحرب مسؤولية كبيرة في وقوع الأسرة أسيرة العوز، ما أجبر الأم على الدفع بطفلها اضطرارًا لجمع العلب البلاستيكية من نفايات الشوارع لسد بعضٍ من رمقهم. تقول الأم:

“أخرجه باكرًا بعد صلاة الفجر حتى لا يراه أحد وهو يجمع العلب البلاستيكية من النفايات، فنحن أسرة لطالما كنّا مستورين ولا يعلم لنا أحد حالًا، سواء عسرًا أو يسرًا”، بهذه الكلمات كانت بداية حديث بدور (32 سنة)، والدة الطفل نزار.

وبحسب الأم، فإنّ ديون الأسرة تكالبت مع عدم مقدرتهم سداد إيجار المنزل الذي نزحوا إليه، مع وضع معيشي سيِّئ دفعها إلى الذهاب لتفقد منزلها الذي كان طيلة أربع سنوات يقع ضمن منطقة عسكرية تابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، راغبة بالعودة إليه لتخفيف أعباء تراكم الإيجار الذي لا طاقة لها بسداده. رأت والدة نزار -أيضًا- أنّ ذهابها لتفقد منزلها، فرصة لتمكين ابنها من جمع العلب البلاستيكية من أرجاء المكان.

كان، اليوم، هو الثلاثاء 14 يونيو/ حزيران 2022، الساعة الـ08:00 صباحًا، فيما يقوم الطفل نزار بجمع العلب البلاستيكية من جوار حوش منزلهم في حي الجعبلي، بمديرية الحوك، مدينة الحُديدة. كانت الأم تتفقد منزلها الذي هجرته بسبب الاشتباكات طيلة أربع سنوات، وترى ما الذي حل به.

عثر الطفل، بين الأشياء المتروكة في الجوار، على جسم غريب يشبه القلم، لونه رمادي، فحرّكَ فضولَه، فمدّ يده لالتقاطه وتفحصه. ولاستكمال إشباع غريزته الطفولية في الاستكشاف، قام بطرقه في الأرض، فانفجر، تاركًا رسالة بليغة عن عبث الحرب وعن أطرافها الذين يفتقدون أدنى شعور بالمسؤولية.

تشظّى لحم الكف الأيمن للطفل، فصار ينزف، وأغمي عليه من هول بشاعة ما رأى. خرجت الأم مسرعة وحملت طفلها إلى المستشفى لإنقاذه، تقول: “حملته إلى المستشفى وهو شبه ميت”. ولأنّ الأسرة معدمة، لم تستطع الأم إبقاء طفلها في المستشفى بعد إجراء الإسعافات الأولية له، فأخرجته منها، ليكابدوا عناء الشعور بالألم وعدم مقدرتهم على تحمل تكاليف التطبيب، وحيدين، إلا من هذا البلد الذي صار نكبة كبيرة لساكنيه.

ما يخلفه أطراف النزاع من متفجرات

كلُّ من ترك منزلًا أو غادر أرضًا أحبَّها؛ كان مغادرها جسدًا لا روحًا فكيف بمن غادرها جبرًا تحت وطأة الحرب ومُنع من زيارتها ولم يتبقَّ له من مساكنها ولا أزقتها سوى ركام وخراب.

هذا هو حال نجيب محفوظ (16 سنة)، ترك منزله وقريته (المنظر، مديرية الحوك، محافظة الحُديدة) عام 2018، إبان إعلان قوات العمالقة (قوات مشتركة مدعومة إماراتيًّا) دخولَ محافظة الحُديدة. غادرها هو أسرته وجميع أبناء قريته فارّين بأرواحهم تاركين كل شيء، فكل ثانية كانت محسوبة في ازدياد خطر فقدانهم أرواحهم.

أصبح الطفل يحمل على عاتقه مسؤولية أهله في موطن النزوح؛ وذلك ليتمكنوا من توفير لقمة العيش والسكن. عمل صيّادًا في البحر وسكن في منزل خالته في حي الحوك بمديرية الحوك بالحُديدة.

لطالما كان حزينًا على منزله وقريته، وهذا ما قالته خالته زهراء (58 سنة): “دائمًا ما يتذكر منزله، فرغبته عارمة بالعودة إليه”. اقتنص الفتى نجيب فرصة انسحاب قوات العمالقة من قرية المنظر منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، ورأى أنّ باستطاعته التسلل للوصول إلى قريته، فقط لمشاهدتها.

كان معلومًا أنّ قريته أصبحت غير صالحة للعيش فلا مساكن ولا أمان؛ ليس هذه المرة من الرصاص والقذائف التي يطلقها طرفَا الحرب (جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وقوات العمالقة)، ولكن ممّا خلّفه طرفا النزاع من مهلكات تتنوع بين ألغام وأشراك خداعية وعبوات مموّهة. انتهى عمله في البحر، وقرر التسلل خلسة من أعين جنود أنصار الله (الحوثيين) ودخل قريته. لم يلقَ سوى دمارٍ وركام وبعض المعادن الغريبة الملقاة على الأرض. دفعه فضوله ورغبته في الاستفادة من المعدن لحمل اثنين منها والعودة بهما للمنزل.

كان يوم الثلاثاء، الخامس من أبريل/ نيسان 2022، الساعة الـ05:00 مساءً، حين خرج الفتى من منزله في حي الحوك، وتوجّه إلى فاعل خير يقوم بتوزيع الثلج للأسر النازحة من قرية المنظر. هناك حيث تتزاحم النسوة والأطفال وبعض المسنّين للحصول على قطعة ثلج تروي عطش الصيام بماء بارد.

جلس منتظرًا لقطعة الثلج التي تخصّه، وبيده إحدى المعادن التي يرغب في بيعها والاستفادة من ثمنها. وكان على يمينه ويسراه عددٌ من الأطفال النازحين في طابور الثلج. نزوح وعوز فلا تفتأ تلتفت يمينًا أو يسارًا إلا ووجدت طابورًا في مدينة الحُديدة، لكن هذه المرة للثلج، لا الغاز ولا المشتقات النفطية، فأحلام هؤلاء أبسط.

كان ينقّل هذه الأجسام بين يديه كشيء مسلٍّ يساعده في مرور الوقت للحصول على قطعة الثلج. وفجأة انفجر به وبمن حوله من الأطفال والرجال، متسبِّبًا بمقتله وإصابة ثمانية آخرين، بينهم ستة أطفال.

انفجرت العبوة المموهة تحطّمت أفئدة أهل نجيب بمقتله، وتناثرت لحوم الضحايا ودماؤهم في المكان، ولم يأتِ الثلج بعد ذلك. نار الحرب المتقدة التي تطاولت من قرية المنظر حتى زقاق حي الحوك، أذابت كل مشاعر شوق، وصيّرتها أحزانًا.