الجوع في بلاد الطعام..

البلاد التي كانت تصدر الغذاء بعد أن فاضت به أراضيها ها هي تستبدل اليوم بساتين الحبوب والذرة والبن وتحيلها إلى مقابر. يا الله.. كيف لهذه الفاتنة أن ترمي بفلذات أكبادها إلى فم الموت.

October 31, 2021
منظر من محافظة ريمة
منظر من محافظة ريمة

منصور أبوالفضل

31 أكتوبر/ تشرين الأول 2021

كان مذيع الأخبار يتحدث عن افتتاح جماعة أنصارالله " الحوثيون " لروضة الشهداء الثانية(مقبرة)، كأحد الإنجازات التي تشهدها مديرية بلاد الطعام، بمحافظة ريمة. البلاد التي كانت تصدر الغذاء بعد أن فاضت به أراضيها ها هي تستبدل اليوم بساتين الحبوب والذرة والبن وتحيلها إلى مقابر. يا الله.. كيف لهذه الفاتنة أن ترمي بفلذات أكبادها إلى فم الموت.يبدو أن الجوع قد جعل هذه البلدة الخضراء تتشح السواد مكرهة وعلى غير عادتها. فقد كانت فيما مضى من أكثر مناطق اليمن زراعة للذرة والحبوب بكل أنواعها ولذلك سميت (بلاد الطعام) أو كما كان يسميها الأجداد (مخزن ريمة).لم تكن خشونة العيش جديدة علينا نحن أبناءها لكن الحرب جعلتنا نكتشف أبعاداً جديدة للبؤس.في إحدى أيام أغسطس/ آب 2019، وفي منطقة علوجة في مديرية الجعفرية إلتقيت بكهل عيناه غائرتان. يفتك الجوع بأمعائه ليقيئ شتائم في وجه الحرب وأنصار الله. قال لي، وقد قاربت دموعه على الانهمار: "حشر الحوثيون أصابعهم في أفواهنا وانتزعوا اللقمة منها. أخبرني أحد أقاربي بأن منظمة إغاثية توزع المعونات فسارعت بتسجيل اسمي بعد أن وجدت نفسي ليس في حوزتي ما أقدمه لأبنائي ليأكلوه، فقد انقطعت رواتبنا منذ سنوات".

"حشر الحوثيون أصابعهم في أفواهنا وانتزعوا اللقمة منها. أخبرني أحد أقاربي بأن منظمة إغاثية توزع المعونات فسارعت بتسجيل اسمي بعد أن وجدت نفسي ليس في حوزتي ما أقدمه لأبنائي ليأكلوه، فقد انقطعت رواتبنا منذ سنوات". 

قال أيضاً بلهجته البسيطة: " قطعوا رواتبنا، يشتونا نموت جوع، بقيت وأسرتي في انتظار توزيع المعونة التي طال أمد انتظارها ولا أمل. كنت في صباح كل يوم أقطع مسافة تقدر بساعتين مشياً على الأقدام حتى أصل الى بوابة المخازن وأسال حراسها: متى بيوزعوها؟ فيجيبوني بجمودهم المعتاد: مش وقت".يواصل الكهل:"قررت جماعة أنصار الله إتلاف هذه المعونة نتيجة خلاف نشب بينها وبين اللجنة المكلفة بتوزيع المعونات، فأحرقت الجماعة كميات كبيرة منها. رأيتها تحترق وتبادر لذهني سؤال: هل اليوم ككل يوم سيأكل أبنائي وجبة واحدة فقط؟".وحين سألته إن كان لديه أي مصدر يعتاشون منه غير هذه المعونات، رفع إليّ عينيه الذابلتين وانسدلت من خلفهما مرارة عميقة. أجاب: "وهل تعتقد انه إذا لم تكن مقاتلاً في جبهة ما، ولم تقدم أولادك قرابين لنار الحرب أنه من الممكن أن تعيش؟"

"وهل تعتقد انه إذا لم تكن مقاتلاً في جبهة ما، ولم تقدم أولادك قرابين لنار الحرب أنه من الممكن أن تعيش؟" 

في صباح آخر زرت عزلة الجبوب التي يتجاوز تعداد سكانها 14000 نسمة والتي تعد ثاني عزلة من عزل مديرية كسمة من حيث المساحة، حيث وأن القرى في هذه المنطقة مترامية الأطراف وأغلب القرى لا يوجد فيها طريق سيارة.في إحدى البرامج الإغاثية، وضعت سلطة جماعة أنصار الله "الحوثيون" مركز التوزيع لمستحقي عزلة الجبوب في عزلة المصبحي، ولا ندري على أي معايير تم الاعتماد عليها لاختيار مركز توزيع لعزلة في عزلة أخرى.يضطر النساء والشيوخ والذين يسكنون قرى بعيدة مثل بني الكدار وجبل صالح سعيد وهكر ومعر للمشي على الأقدام من ثلاث إلى أربع ساعات حتى يصلوا إلى مركز التوزيع ويضطر البعض لعدم إستلام مخصصه من المساعدة لبعد المسافة وعدم القدرة على الوصول.قال لي أحد اللذين تضرروا من خسارة معوناتهم: "وصلت إلى مركز صرف المساعدات في عزلة المصبحي بعد ساعتين من المشي على الأقدام من منزلنا، حيث ينتظرني والدي وأخوتي اللذين يتقاسمون أرغفة خبز صماء لا غير في معظم الأيام.وصلت إلى مركز الصرف وتخاطبت مع المندوب المعين من قبل أنصار الله بصرف المساعدات فقال لي : المقاتلين في الجبهات أولى منكم، أرجع، وكل الحاصل.توسلت له كثيراً دون جدوى. عدت إلى القرية عصراً ووالدي وأمي وأخوتي ينتظرون عودتي ويرقبونني من سطح المنزل المطل على الطريق".ختم كلامه بمرارة: "حسيت بالقهر لما شفت أبي ويده على خده".هكذا تتفاقم الظروف الإنسانية المزرية في ريمة منذ زمن، وقد ضاعفت الحرب من ثقل جوعها حتى جفت أوردة أطفالها. فالأطفال هم مأساة الحرب الأكثر وضوحاً.في ربوع بني الخولي ببلاد الطعام والتي يسكنها عدد كبير من المهمشين يعيش سالم ( 6 سنوات) الذي يعاني من سوء تغذية حاد، فهو أشبه ما يكون بهيكلٍ عظمي .يقول والده راشد (٣٦ سنة) : "ابني سالم يعاني من سوء تغذية حاد، وهو الآن أفضل مما كان عليه قبل عام، فالأيادي البيضاء تمتد إلينا من وقت إلى آخر، لكن معونات المنظمات الإغاثية فهي بين التأخير الكبير أو أن المعونات تصل إلينا شبه تالفة بسبب بقائها لفترات طويلة في مخازن المنظمات وبسبب سوء التخزين أيضاً.  يضيف راشد: ولدي الأكبر مأمون (12 سنة) يعاني من ضمور دماغي، منذ ولادته وأنا أبذل كل ما بوسعي لعلاجه، أحيانا تنقطع عليه الأدوية لأشهر بسبب ظروفي المالية التي تجعلني أقف أمامه عاجزاً منكسراً.استمع إلى كل تلك القصص واتساءل، كم أورثت هذه الحرب من دمامل في أجساد البسطاء؟ غصص بطول الأيام التي جاعوا فيها وبطول أيام الحرب التي شوهت وجه حياتهم البسيطة.جراحات الحرب لا تنتهي، فبلاد الطعام تعاني الجوع والإفقار، ولم يعد لها من اسمها نصيب.