مؤتمر "إرث البارود"
فؤاد النهاري
على مدار يومين، جمعت "مواطنة لحقوق الإنسان" أكثر من مائتي شخصية يمنية من مختلف محافظات الجمهورية في قاعة واحدة بصنعاء، وفي خمس قاعات افتراضية في عدن وشبوة وتعز وسيئون والمكلا، مرتبطة بواسطة الإنترنت بقاعة صنعاء، خلال الـ11 - 12 من الشهر الجاري.
كان الحضور في قاعة المؤتمر الرئيسة بالعاصمة صنعاء نوعياً من مختلف الأطياف والمهن، صحفيين، وكتاب، وأكاديميين، ومحامين، وقضاة، ونشطاء مدنيين، وحقوقيين، ومعلمين، وغيرهم، ومن مختلف المحافظات بما في ذلك المحافظات البعيدة كالمهرة وحضرموت وسقطرى.
في الحقيقة هذا أول نشاط بالنسبة لي بهذا الترتيب والحضور النوعي المتعدد، في زمن الحرب والاقتتال، إذ لم يعد هناك من أنشطة أو فعاليات تنظم في أي منطقة من البلاد، عدا أنشطة قليلة موجهة لا ترقى إلى مستوى هذا المؤتمر.
كانت المشاعر فياضة، وأنت تلتقي زملاء وأصدقاء فرقت بينهم أحداث السنوات العشر الأخيرة التي عصفت بالبلاد والعباد. إحساس مختلف يعيدك إلى سنوات مضت، حيث كان الحراك الثقافي والمدني نشطاً وفاعلاً وحاضراً وعصياً على الاستقطاب السياسي.
صحيح، كانت أصواتنا مرتفعة في تلك السنوات التي خلت، تطالب بدولةٍ مدنيةٍ حديثةٍ، ومواطنة متساوية وسوية، وديمقراطية حقيقية، وعدالة اجتماعية، إلى آخر تلك الأحلام..، كما كانت أيضاً مُناهضة، ورافضة لمظلوميات صعدة والجنوب وتهامة، ومتضامنة مع المسرحين، والمقصيين من وظائفهم والمخفيين قسراً.
أما اليوم وقد تغير الوضع كثيراً، وزادت المظلوميات، وتعددت! فما بالإمكان القول؟ لقد بلغ السيل الزبى!
مع ذلك كان مؤتمر إرث البارود، محطة للوقوف على حالة اليمن خلال عشر سنوات من الحرب. استعرض المؤتمرون حالات يندى لها الجبين من وقائع الإخفاء القسري وضحايا الألغام، وهي حالات موجعة لآلاف الأسر اليمنية خلّفت وجعاً، وألماً، وبؤساً في مئات البيوت. كما استعرض المؤتمر حالة حقوق الإنسان في اليمن عموماً، والاستهداف الجائر للمجتمع المدني، وشيطنته وتخوينه.
لقد كان المؤتمر محطة جمع فيه اليمنيين متعددي اللهجات، والثقافات، والقناعات، والأفكار والمذاهب. وكان بادياً على وجوه الجميع السعادة، وكانت الروح الأخوية الودودة واضحة في أحاديث المشاركين، ونقاشاتهم داخل القاعة أو أثناء الاستراحات! كان الجميع مقبلين على بعضهم، المهري، والصنعاني، والسقطري، والذماري، والعدني، والتعزي. في الوجوه تقرأ شوق الناس للعودة إلى الحياة الطبيعية، لا حرب ولا دماء..، لا طرق ولا مرتبات مقطوعة. تقرأ شوق الناس لدولة عادلة، دولة النظام والقانون والمواطنة. تقرأ أيضاً أن اليمني بطبعه يتقبل أخاه اليمني، ويتعايش معه وإن اختلفوا في بعض القناعات والأمور.
كنت أقرأ في وجوه المشاركين اعتزازهم بيمنيتهم، وحبهم لوطنهم، ورفضهم للحرب والتشظي السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، وإصرارهم على تحقيق أحلامهم الوطنية العادلة التي تحفظ لجميع مناطق، وسكان اليمن حقوقهم السياسية والاقتصادية، والاجتماعية.
قال لي أحدهم :"أحس بعودة الروح إلى الجسد، مثّل هذا المؤتمر بالنسبة لي إيقاظاً مما يشبه الموت السريري، كنت أعتقد أنه لم يعد لنا من صوت ولا بصيص أمل في يمننا الذي ننشده ونحلم به، لا زالت الدنيا بخير، وسنواصل النضال من أجل مستقبل أفضل لأولادنا".
وقال آخر: "لقد بكيت وأنا أسمع في افتتاح المؤتمر قصيدة الراحل العظيم عبدالعزيز المقالح، سنظل نحفر في الجدار، وهي تؤدى مغناة - كنشيد لمنظمة مواطنة". وأضاف "وغداً.. سيكون الانتصار".
نعم. سنظل نحفر في الجدار، من أجل مستقبل أفضل، وحتماً سيتحقق الحلم، والعاقبة للمتقين