تابوت ذكريات

يزرع العم عبده ما يحلو له في أرضه التي يرى أنها تعدل كوكب الأرض بأسره، من فدانات الأعلاف، إلى عشرات النخيل. كما أن مواسم الزراعة وثمارها كفيلة بأن تجعل العم عبده يتخيل نفسه إمبراطورًا يتربع على عرش مملكة الرضى.

June 14, 2021

عمار حسن

14 يونيو/ حزيران 2021

كثيرًا ما تستدعينا الذاكرة -زمانًا ومكانًا- إلى حضور مواقف عشناها. هذه المرة: المكان؛ هو جنوب بيتنا- على المرتفع الترابي الذي كنت أقف فيه قبل خمس وعشرين عامًا؛ أنظر إلى الطريق الذي يجلب البدو وسكان القرى المحيطة بقريتنا التي تُعد بمثابة الحاضرة التي تحتضن السوق والباعة.

أرى هذا يأتي على دراجته النارية، وذاك على ناقته، وذاك على حماره، وذاك راجلًا. وكان من أشد المواقف نحتًا في ذاكرتي؛ ذلك الكهل الذي يبدو كبرجوازي، وهو يمتطي حماره ذا اللون الأبيض الصافي، وذا البنية الضخمة.

كنت -كغيري من أطفال القرية نجزم بأنه ليس حمارًا، فإما أن يكون خيلًا أو بغلًا، لضخامة بنيته، ولربما عُدت من المدرسة على عَجَلٍ لأقف خلف البيت منتظرًا للرجل يطل علينا بحماره الضخم وأنادي لإخوتي وبقية الصغار: جاء الخيل، جاء الخيل، ونظل نحدق فيه تارةً وفي صاحبه تارةً؛ الذي يبدو لنا أنه يتباهى بمركبه ذاك- وهو كذلك.

العم عبده علي سليمان الحُلْبي؛ المزارع الشهير أو “الرعوي”- اللقب الذي يحلو لأهل المنطقة أن ينادوا به المزارع الكبير.

يشتري العم عبده المتطلبات اليومية، والقات، وبعض الحلوى، ثم يعود قافلًا إلى مملكته الصغيرة، تلك المزرعة البعيدة عن ضجيج البشر، والواقعة في بادية الحَلَّيبة، على بُعد حوالي 37 كيلو متر إلى الشمال الشرقي من مركز مديرية المخاء، محافظة تعز.

يزرع العم عبده ما يحلو له في أرضه التي يرى أنها تعدل كوكب الأرض بأسره، من فدانات الأعلاف، إلى عشرات النخيل. كما أن مواسم الزراعة وثمارها كفيلة بأن تجعل العم عبده يتخيل نفسه إمبراطورًا يتربع على عرش مملكة الرضى.

كان يمتلك العم عبده بيتين صغيرين في مزرعته على شكل البيوت التهامية، التي تكون مبنية من الطين بشكل دائري ومسقوفة بالأخشاب والقش، وتفصل بينهما مسافة أقل من خمسة أمتار.

في صباح الثالث من يوليو/ تموز 2017، ذهب العم عبده يمارس أعماله في المزرعة كعادته كل يوم يشرف على عُمَّاله، ويوزع بعض المهام الصغيرة على صغاره، ويتباهى بهم وهم يعملون معه. وكانت في ضيافته إحدى بناته، واسمها سعيدة (40 عامًا)، التي زارت والدها بصحبة طفلتها أماني 8 أعوام.

وعند الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، عاد الأطفال إلى بَيْتَيْهم؛ باستثناء ثلاثة منهم كانوا يساعدون والدهم في جني ثمار النخيل؛ وهم: سليمان وسليم وحنان، وأكبرهم سليمان، الذي يبلغ من العمر حاليًّا 12 عامًا.

في هذه الأثناء كانت كارثة تترقبهم، حين ألقى طيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات، قنبلةً على البيتين الصغيرين أحالهما إلى تراب، وأحال البشر فيهما إلى أشلاء ودماء امتلأت بها أرض المزرعة.

أسفر القصف عن إبادة كل من في البيت صغيرًا وكبيرًا، ولم ينجُ منه إلا الأب وأطفاله الثلاثة، الذين لم يعودوا إلى البيت بعدها، وابنه الأكبر سعيد الذي يعيش بعيدًا عن المنطقة.

أسفرت هذه الواقعة عن مقتل ثمانية أنفس وجنين في بطن أمه؛ زوجتَي العم عبده: مريم (65 عامًا)، وحياة (40 عامًا)، وأبنائه: سعيدة (40 عامًا)، وعلي (10 أعوام)، وسُعاد (9 أعوام)، وسالم (8 أعوام)، ومريم (7 أعوام)، وحفيدته: أماني (8 أعوام)، وجنين في بطن الزوجة الثانية حياة بين السبعة والثمانية أشهر من حمله.

اختلطت لحومهم ببعضها، وتطايرت أشلاؤهم مع أثاث البيتين إلى مسافات متفاوتة. يفيد أحد شهود الواقعة بقوله:

“وجدت بعض الأشلاء على بُعد 50 مترًا إلى الجنوب من بينها يدُ الجنين، ووجدت بعض الأثاث على بُعد 70 مترًا إلى الغرب”.

في الثاني والثالث من يوليو/ تموز 2019، نزلت لتوثيق الواقعة، ويا ليتني لم أفعل.

نظرت إلى الثلاثة الصبية الناجين، وخذلتني مشاعري في التماسك أمامهم، ولم أستطع التحديق في وجوههم ولا الحديث معهم.

ركبت دراجتي النارية، وعدت أدراجي في ذهول وشرود، لم أنجُ من تبعاته حتى اللحظة.

بتُّ على يقين أنه لا أصعب من وظيفة عامل في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وباتت ذاكرتي وخيالي في تابوت كبير مليء بالأشلاء وبواعث الأنين، وأصبحت إلى جوار الأطفال الناجين بحاجة إلى تدخل مختص نفسي ينقذني من هذا التابوت الكئيب.

بات الأطفال بحاجة إلى دعم نفسي، وقانوني، وإلى إيواء.

أما العم عبده فقد دخل عالم الهذيان والصمت معًا، والأمراض التي تكالبت عليه؛ أبرزها مرض القلب، حتى لحق بأطفاله وزوجتيه في أبريل/ نيسان 2019، بعد قرابة العامين من العناء والآلام في السبعين من عمره.

يوجه الابن الأكبر سعيد (45 عامًا) نداءً إلى ذوي الضمائر والإنسانية بمساعدته في بناء بيت يؤوي فيه إخوته الصغار، وفي منظومة شمسية بدلًا عن المضخة التي كانت تعمل بمادة الديزل، والتي بات سعره خارج مقدوره ليعتاش وإخوته من أرضهم، بعيدًا عن النوال والهبات بقية حياتهم.