بالنظر إلى الأضرار المدنية الملازمة للنزاع، فإن أهم ما يمكن للأطراف المتحاربة ومؤيديهم القيام به لزيادة حماية المدنيين هو اتخاذ خطوات ملموسة نحو السلام.
نشرت هذه المقالة من قبل في مجلة شبكة الممارسة الإنسانية (HPN)، يناير/ كانون الثاني 2020
منذ اندلاع الحرب الحالية في اليمن عام 2014، الآلاف من المدنيين قُتلوا أو جُرحوا. ودمرت الغارات الجوية والمواجهات البرية المستشفيات والمدارس والبنى التحتية الحيوية. كما يعاني ويموت ملايين الأشخص من الجوع والمرض بسبب القيود المفروضة على إيصال المساعدات الإنسانية والواردات التجارية والوصول إلى الخدمات الأساسية. ولا تعتبر هذه الأزمة كارثة طبيعية، كما أعرب عنها الأمين العام للأمم المتحدة، السيد أنتونيو جاتريس، بل إنها أزمة “من صنع الإنسان”. ففي حين أنه بمقدور الأطراف المتحاربة الحد من معاناة المدنيين الناجمة عن الأعمال القتالية، إلا أنهم فشلوا في القيام بذلك إلى هذه اللحظة، الأمر الذي يحتم اتخاذ إجراءات عاجلة بهذا الشأن. وقد حاول المجتمع المدني والمنظمات الدولية ودول أخرى الدفع بالأطراف المتحاربة إلى تحسين حماية المدنيين، بدرجات نجاح متفاوتة.
الإضرار بالمدنيين في الحرب القائمة في اليمن
بدأ النزاع الحالي في عام 2014، عندما حملت جماعة أنصار الله المسلحة (الحوثيون) والقوات الموالية للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح السلاح ضد الحكومة. وتصاعدت الأعمال القتالية بشكل كبير عندما تدخل تحالف تقوده المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى جانب الحكومة، حيث حظي هذا التحالف بدعم وتأييد عدد من الحكومات الغربية من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، في حين تلقى الحوثيون الدعم من إيران.
وتسببت أطراف النزاع في إلحاق الأذى بالمدنيين بطرق متعددة. وفيما يلي نبذة بسيطة عن ذلك:
الغارات الجوية
في مارس 2015، بدأ التحالف بقيادة السعودية والإمارات بشن حملة جوية مدمرة على اليمن. وسرعان ما أثيرت مخاوف بشأن حجم الأضرار التي لحقت بالمدنيين الناجمة عن تلك الغارات الجوية، حيث ذكرت تقارير مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عن وقوع آلاف القتلى والجرحى بحلول سبتمبر/ أيلول 2015. وعلى الرغم من التقارير المتكررة والمتواصلة عن الأثار المدنية، استمرت الغارات الجوية التي تسببت في وقوع أضرار كبيرة بالمدنيين. ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2016، قام طيران التحالف بإستهدف قاعة عزاء، وفي أبريل/ نيسان 2018، إستهدف حفل زفاف، وفي أغسطس/ آب 2019، أي بعد أكثر من أربع سنوات من بدء الحملة الجوية على اليمن، تم إستهداف مركز احتجاز إستخدمه الحوثيون لإحتجاز مدنيين ومقاتلين من جانب التحالف. وقد أسفرت كل عملية من عمليات الإستهداف هذه عن مقتل أو إصابة أكثر من 100 شخص.
كان للحملة الجوية التي شنها التحالف على اليمن تأثير بعيد المدى على حياة المدنيين، حيث تم ضرب العديد من المدارس والمستشفيات والأسواق والمساجد والمنازل. كما قام التحالف بإستهداف مركز تديره منظمة أطباء بلا حدود (MSF) لعلاج مرضى الكوليرا في يونيو/ حزيران 2018. وقالت منظمة أطباء بلا حدود إنهم شاركوا إحداثيات الموقع مع التحالف لعشرات المرات، وكانت هناك علامات واضحة على سطح المبنى. وبحسب منظمة أطباء بلا حدود، تسببت الغارات الجوية في حرمان أكثر من مليون شخص من تلقي العلاج أثناء تفشي وباء الكوليرا.
القصف بقذائف الهاون والمدفعية والألغام
أسفر القتال البري العنيف بين الحوثيين والقوات السعودية والقوات الإماراتية بالوكالة والقوات المسلحة اليمنية وغيرها من الجماعات المسلحة عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين. فعلى وجه الخصوص، تأثرت مدينة تعز بشكل كبير جراء هذا القتال، حيث استخدمت الأطراف المتقاتلة (الحوثيون في المقام الأول) الأسلحة الثقيلة في هجماتهم على المدينة في مناطق مكتظة بالسكان، مما أسفر عن مقتل وجرح العديد من المدنيين. وكان القصف الذي شنه كل من الحوثيون والحكومة اليمنية والقوات المتحالفة معها سبباً رئيسياً لتضرر المدنيين خلال معركة الساحل الغربي لليمن. كما تشكل الألغام وغيرها من مخلفات الحرب، بآثارها العشوائية، تهديدًا كبيرًا للمدنيين، حيث استخدم الحوثيون الألغام – بما في ذلك الألغام المحظورة المضادة للأفراد – والتي تسببت بقتل وإصابة العشرات، واستخدم التحالف الذخائر العنقودية المحظورة على نطاق واسع حتى عام 2017 على الأقل، ولكن يبدو أنهم أوقفوا استخدامها في اليمن تجنباً لإنتقادات الرأي العام والحلفاء.
الاحتجاز والاختفاء القسري والتعذيب
انخرطت كل من قوات الحوثيين والقوات السعودية والإماراتية والقوات الإماراتية بالوكالة والقوات الحكومية اليمنية في إرتكاب انتهاكات جسيمة متعلقة بعمليات الاحتجاز، والتي تتراوح بين الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والمعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة والتعذيب. وقامت مجموعات يمنية ودولية تعنى بحقوق الإنسان، بالإضافة إلى محققين تابعين للأمم المتحدة، بتوثيق المئات من حالات سوء المعاملة المرتبطة بالاحتجاز منذ عام 2014، من بينها حالات وفاة في المعتقلات نتيجة لسوء المعاملة، وحالات احتجاز لرهائن بغرض جني الأموال من أسرهم، أو استخدام المحتجزين في عمليات تبادل الأسرى مع الطرف الأخر. كما تم نقل محتجزين خارج اليمن إلى المملكة العربية السعودية، وربما إلى أماكن أخرى، بما في ذلك إريتريا. وتم إخفاء عدد من الأشخاص، معظمهم من الرجال والفتيان في جميع أنحاء البلاد.
منع وعرقلة وتأخير وصول المساعدات الإنسانية
أعاق التحالف إيصال الواردات الإنسانية والتجارية من خلال سيطرته على موانئ اليمن البرية والجوية والبحرية. وأدى الإغلاق الكامل لأهم نقاط الدخول إلى اليمن، بما في ذلك ميناء الحديدة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 بعد أن أطلق الحوثيون صاروخاً باليستياً باتجاه مطار الرياض، الأمر الذي أدى إلى حرمان ملايين اليمنيين من المياه النظيفة والصرف الصحي في وقت كانت فيه البلاد قد خرجت للتو من أسوأ تفشي للكوليرا في العالم. وعلى الرغم من رفع الإغلاق الكامل في نهاية المطاف، ظلت هناك قيود شديدة. وتفاقمت التحديات التي يواجهها السكان اليمنيون في الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية بسبب إغلاق التحالف لمطار صنعاء في أغسطس/ آب 2016. كما حد الحوثيون أيضًا من توفير المساعدات الإنسانية الأساسية للسكان المحتاجين، حيث قامت قوات الحوثيون بسرقة المساعدات الإنسانية، ومنعت إيصالها إلى المناطق الخارجة عن سيطرتهم وفرضت تأخيراً تعسفياً مفرطاً على العمل والحركة والوصول الإنساني. وكان التأثير التراكمي لهذه القيود كبير جداً على حياة المدنيين.
الجهود المبذولة لتحسين حماية المدنيين في اليمن
أصبح من الواضح في وقت مبكر نسبياً من النزاع أن الأطراف المتحاربة لم تتسبب فقط في وقوع أضرار مدنية واسعة النطاق، بل أيضًا في عدم اتخاذ خطوات صادقة للحد بشكل كبير من هذه الأضرار. ولقد عملت مجموعة من الجهات الفاعلة، بما في ذلك المجتمع المدني والمنظمات الدولية ودول أخرى، على زيادة حماية المدنيين. وشملت تكتيكاتهم التعامل المباشر مع الأطراف المتحاربة أو تقديم الدعم الفني لها، ورصد ومناصرة وتنظيم حملات ورفع تقارير بشأن الامتثال للقانون الدولي.
لقد كانت القيود المفروضة من قبل الأطراف المتحاربة – بما في ذلك الحصار الذي يفرضة التحالف والعرقلات التي يقوم بها الحوثيون – تعني التركيز بشكل بارز على ضمان وصول المساعدات والواردات التجارية الحيوية المنقذة للحياة إلى داخل البلاد ووصولها إلى وجهاتها، حيث سعت عدد من الجهات الفاعلة الإنسانية، بما فيها الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الإنسانية، إلى توصيل المساعدات الإنسانية والسلع التجارية، بما في ذلك تنسيق التصريحات الخاصة بالتحركات الإنسانية (داخل البلاد وحولها) وتقديم الدعم الفني للأطراف المتحاربة فيما يتعلق بسلاسل الإمداد.
كما سعت الدول إلى المشاركة في حماية المدنيين، بما في ذلك من خلال التعامل المباشر مع الأطراف المتحاربة أو تقديم الدعم الفني لها بهذا الخصوص، حيث قام المستشارون الأمريكيون بتدريب قوات التحالف على قوانين الحرب، وتتبع الأضرار الواقعة على المدنيين وكيفية تطوير أنظمة للتعلم من “أخطاء” الماضي.
بالرغم من استمرار الأضرار التي تلحق بالمدنيين، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال مترددة في اتخاذ خطوات جدية حيال ذلك مثل إيقاف تقديم الدعم المادي للأطراف المتحاربة
وبالرغم من استمرار الأضرار التي تلحق بالمدنيين، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال مترددة في اتخاذ خطوات جدية حيال ذلك مثل إيقاف تقديم الدعم المادي للأطراف المتحاربة (بما في ذلك الأسلحة أو غيرها من المساعدات)، حتى عندما أشار مسؤولون سابقون لديها بإن الإجراءات الأكثر قوة كانت تمثل الوسيلة الواعدة للتغيير الإيجابي.
يبدو أن الدول التي تنتقد أعضاء التحالف بشكل واضح وعلني كان لها تأثير، فعلى سبيل المثال، أثارت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرهن مخاوف كبيرة بعد تفجير قاعة العزاء المكتظة بالناس في العاصمة صنعاء، الأمر الذي دفع التحالف على الفور تقريبًا بالتعهد بإجراء تحقيق بهذا الخصوص. وفي بعض الحالات، اعترف التحالف بأن الهجمات كانت نتيجة “أخطاء”، ووعد بإتخاذ بمجموعة متنوعة من التدابير لحماية المدنيين بشكل أفضل، بما في ذلك تشديد قواعد الاشتباك. ولكن تشير حقيقة إستمرار الغارات الجوية بإلحاق الضرر بالمدنيين، وبقاء كامل أنماط الضرر الواقع على المدنيين كما كانت عليه، إلى أن هذه التدابير لم تكن فعالة بما فيه الكفاية.
طوال فترة الصراع، قامت مجموعات يمنية ومنظمات غير حكومية دولية وهيئات تابعة للأمم المتحدة برصد وتوثيق الأضرار المدنية والتحقيق فيها. ينصب التركيز في كثير من الأحيان على الالتزامات القانونية الدولية لأطراف النزاع، ونشر تقارير في الإعتداءات والانتهاكات الواضحة، وتقديم توصيات بشأن سبل التقليل من الإضرار بالمدنيين إلى أدنى حد. كما بدأت بعض مجموعات المجتمع المدني في بناء قاعدة أدلة لتكون حجر أساس لأي جهود مستقبلية من شأنها مساءلة مرتكبي الإنتهاكات وإنصاف الضحايا. وفي عام 2017، أنشأ مجلس حقوق الإنسان – بعد ثلاث سنوات من المناصرة من جانب المجتمع المدني – فريق الخبراء البارزين، وهو فريق مستقل للتحقيق في الانتهاكات. وقد حظي التقرير الثاني لهذا الفريق، والذي نُشر في سبتمبر/ أيلول 2019، باهتمام كبير، لا سيما ما ذكر فيه من قائمة الأفراد والوحدات المشاركة في الحملة العسكرية، وتسليطه الضوء فيه على دور الأطراف المتحاربة في تفاقم الأزمة الإنسانية، والتوصيات الموجهة إلى الدول بوقف إمداد أطراف الصراع بالسلاح.
يمكن القول إن النجاح الكبير في جذب الانتباه لمسألة الأضرار التي تلحق بالمدنيين في اليمن والعمل عليها قد جاء من خلال التركيز على الجهات التي يحتمل أن تكون متواطئة في هذه الإنتهاكات، حيث وسعت مجموعات المجتمع المدني من عملها ليشمل البحث والمناصرة وتنظيم الحملات وتسليط الضوء على أولئك الذين يساهمون في إرتكاب هذه الإنتهاكات – بشكل أساسي من خلال عمليات بيع الأسلحة أو غيرها من أشكال المساعدات العسكرية والأمنية للسعودية والإمارات. ونتيجة لهذا العمل، قامت عدد من الدول بتعليق مبيعاتها للأسلحة لأعضاء التحالف، وضغطت على التحالف لإنشاء آلية تحقيق في الانتهاكات. وتعتبر هذه التدابير ذات معنى رغم أنها غير كافية.
أثبتت الجهود المبذولة مع الجماعات المسلحة لتشجيع التغيير أنها أكثر صعوبة مما كان متوقع. فقد ناضل الناشطون وغيرهم من الجهات الفاعلة من أجل تطوير أساليب ملموسة لدعم حماية المدنيين مع الأطراف غير الحكومية، لا سيما الحوثيون. وفي حين حصل المحامون والناشطون اليمنيون على نجاحات مهمة (على سبيل المثال في قضايا اعتقالات الأفراد)، كانت الطرق الواضحة إلى وسائل التأثير الفعالة أقل وضوحاً أو فعالية.
التدابير الأساسية لتحسين حماية المدنيين في اليمن
يمكن للأطراف المتحاربة تحسين وضع المدنيين بشكل كبير وفوري بمجرد الالتزام بالقواعد المحددة بالفعل في القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. فهناك حاجة ماسة إلى وجود مساءلة وآليات أفضل للإسفادة من الدروس. فتكرار نفس أنواع الانتهاكات طيلة فترة الصراع يؤكد الحاجة الحقيقية لإجراء تحقيقات شاملة وفعالة في مزاعم الإنتهاكات وعمليات معاقبة مرتكبيها أو مساءلتهم ووجود آليات تقديم الإنصاف والتعويضات القيمة للضحايا المدنيين عن الأضرار الواقعة عليهم ومسارات تعذية مرتدة فعالة لضمان التعلم من الدروس المستفادة بشكل صحيح.
لقد أثبتت الأطراف المتحاربة عدم استعدادها لإجراء هذه التغييرات دون ضغط أو حافز. ومن أجل ضمان ليس فقط إجراء التغييرات فحسب، بل أيضًا أن تكون هذه التغييرات موثوقة وفعالة، يجب على الدول وضع معايير تحقق واضحة: على سبيل المثال وضع حد للهجمات العشوائية وغير المتناسبة؛ تحسين الظروف (بما في ذلك الإفراج عن المحتجزين تعسفياً) في المعتقلات؛ تسهيل ملحوظ لتدفقات المعونة الإنسانية والواردات التجارية؛ وبدء بإجراء تحقيقات ذات مصداقية ومحاسبة مرتكبي الإنتهاكات وإنصاف الضحايا والتعلم من الدروس المستفادة. فمن شأن إيقاف عمليات بيع الأسلحة وغيرها من أشكال الدعم العسكري للأطراف المتحاربة، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أن يكون وسيلة فعالة للضغط على التحالف لعمل تغييرات حقيقية للتقليل من الإضرار بالمدنيين إلى أدنى حد.
وبالنظر إلى الأضرار المدنية الملازمة للنزاع، فإن أهم ما يمكن للأطراف المتحاربة ومؤيديهم القيام به لزيادة حماية المدنيين هو اتخاذ خطوات ملموسة نحو السلام.
كرستين بيكرلي المديرة القانونية (المساءلة والإنصاف) في مواطنة لحقوق الإنسان، وهي منظمة يمنية مستقلة تعني بحقوق الإنسان. عملت كرستين سابقاً كباحثة لدى هيومن راتيس واتش في اليمن.
أسامة الفقيه: مدير الإعلام والاتصال والمناصرة في مواطنة لحقوق الإنسان، وقد عمل سابقاً كمدير لوحدة البحث في مواطنة لحقوق الإنسان