الضربات التي قمنا بتوثيقها في جميع أنحاء اليمن، تسلط الضوء على إشكالية استخدام ضربات باستخدام طائرات أمريكية بدون طيار وعمليات مكافحة الإرهاب الأخرى في ما هو مفهوم بأنه نزاع محلي واجتماعي وسياسي - خلافاً لإدعاءات الولايات المتحدة بأنها في صراع عالمي ضد القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) .. من وقت لآخر، فإن بعض الأشخاص الذين التقينا بهم أشاروا أيضاً إلى طرق يمكن للولايات المتحدة من خلالها حماية المدنيين في اليمن بشكل أفضل.
هذه أولى مقالتين عن عمليات مكافحة الإرهاب في اليمن، وهي أيضاً الأحدث في سلسلة جديدة نصدرها في شراكة مع معهد حقوق الإنسان التابع لكلية الحقوق بجامعة كولومبيا، والذي يبرز أصوات الخبراء والدعاة من البلدان المتضررة من سياسات الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية. الأجزاء السابقة في هذه السلسلة موجودة هنا.
في عام 2017م، قال الجيش الأمريكي أنه نفذ أكثر من 120 غارة في اليمن، أي أكثر بثلاث مرات من عدد الغارات في عام 2016م. لسنوات عديدة، قمنا في منظمة مواطنة لحقوق الإنسان بتوثيق تأثير الضربات الأمريكية باستخدام طائرات بدون طيار في اليمن من خلال البحث الميداني المفصل. في عام 2017م، قمنا بالتحقيق في ثمان غارات بطائرات بدون طيار وعمليات برية، ووجدنا أن العمليات الأمريكية كانت مسؤولة عن مقتل ما لا يقل عن 32 مدنياً – بينهم 16 طفلاً وست نساء – وجرح عشرة آخرين، بينهم خمسة أطفال. (سيتم نشر نتائج هذه التحقيقات في تقرير قادم).
يُذكر أن القتلى والجرحى من المدنيين البالغ عددهم 32 و 10 على التوالي هم الأحدث في قائمة طويلة للضحايا الذين تضرروا من العمليات العسكرية الأمريكية في اليمن والذين كانوا لسنوات عديدة في انتظار تحقيق العدالة. لا تزال حوادث الإضرار بالمدنيين في اليمن تؤثر سلباً على سمعة الولايات المتحدة في البلاد وتدفع المجتمعات المحلية إلى تبنّي العنف والانتقام كحل وحيد للأذى الذي تعاني منه. في ظل استمرار العمليات الأمريكية في اليمن في عام 2018م، فإنه قد حان الوقت لإعطاء مزيد من الاهتمام للمدنيين المتضررين ولآثار هذه السياسة غير الحكيمة والمدمرة.
توثيق الغارات الأمريكية
بدأت الولايات المتحدة عمليات القتل الاستهدافية في اليمن في عام 2002م في ظل إدارة بوش، والتي زادت بشكل كبير خلال السنوات القليلة الأولى من فترة إدارة أوباما. تحت حكم الرئيس ترامب، شهد عدد الغارات ارتفاعاً كبيراً مرة أخرى. في اليمن، أثارت عمليات الولايات المتحدة قدراً كبيراً من الأسئلة حول سرية وأخلاقيات وأهداف ونتائج وفعالية وآثار ومشروعية هذه الغارات. أيضاً، وجه المدافعون عن حقوق الإنسان تساؤلات للحكومة الأمريكية حول مصير المئات من الضحايا المدنيين، وحول عدم اعتراف الحكومة وخضوعها للمساءلة والطرق التي تكفل عدم إضافة أي ضحايا جدد إلى القائمة المتنامية. حتى الآن، لا تزال ردود حكومة الولايات المتحدة على الكثير من هذه الأسئلة غير كافية أو أنه أو لم يتم الرد عليها.
خلال عامي 2013م و 2014م، عملت مع فريق لإجراء بحث عن الضحايا المدنيين لغارات الطائرات بدون طيار الأمريكية. قمنا بزيارة مناطق وقرى في أجزاء مختلفة من اليمن تضررت من التدابير الأمريكية. قمنا بإجراء مقابلات مع الشهود والناجين والأطباء والقادة الاجتماعيين المحليين. تفقدنا المواقع التي تعرضت للهجمات وتفحصنا بقايا الذخائر وآثار هذه العمليات على حياة المدنيين. قمنا بإصدار النتائج التي توصلنا إليها في تقرير بعنوان “الموت بضربات الطائرات بدون طيار: اضرار المدنيين الناجمة جراء عمليات القتل الاستهدافية الامريكية في اليمن”، والذي شاركنا في كتابته مع مبادرة العدالة في المجتمع المفتوح. تضمن التقرير نتائج بحثنا الميداني بالإضافة إلى توصيات لضمان التزام العمليات الأمريكية بالقانون وإتاحة المساءلة للمدنيين المتضررين من الغارات الأمريكية. للأسف، فإن العديد من أولئك الذين تحدثنا معهم سوف يتحدثون عن قسوة الواقع الذي يحيط بحياتهم.
“إن قريتنا فقيرة -لا تعليم لدينا، لا مستشفيات، لا طرق، ولا حتى أي نوع من الخدمات، كل ما وردنا من سبل التقدم والتطور في العالم الحديث، هو فقط هذه الصواريخ المميتة”.
هذا ما قاله لنا محمد ناصر الجراح، وهو قروي من قرية سيلة الجراح، خلال زيارتنا إلى قريته النائية في 31 مايو 2013م، بعد أن أصابت غارة أمريكية مزعومة منزلاً مليئاً بالنساء والأطفال. كانت زيارتنا لسيلة الجراح منذ ما يقرب من خمس سنوات، إلا أن مشاعر محمد الحزينة تمت مشاركتها معنا على مر السنين من قبل عدد من الناجين والشهود وفي أجزاء مختلفة من اليمن.
انقضت حتى الآن ستة عشر عاماً بعد أول ضربة أمريكية في اليمن باستخدام طائرة بدون طيار، وما زلنا نعمل على توثيق هجمات جديدة ونبحث في تأثيرها على المدنيين. في ظل مساعي ترامب المتجددة لزيادة العمليات الفتاكة في اليمن، يبدو أن الولايات المتحدة لم تتعلم بعد دروساً لمنع وقوع أضرار في صفوف المدنيين في البلاد.
إصدار قائمة القتل: أداة للحد من الأضرار في صفوف المدنيين
الضربات التي قمنا بتوثيقها في جميع أنحاء اليمن، من صنعاء إلى ذمار إلى رداع تسلط الضوء على إشكالية استخدام ضربات باستخدام الطائرات بدون طيار الأمريكية وعمليات مكافحة الإرهاب الأخرى في ما هو مفهوم تماماً بأنه نزاع محلي واجتماعي وسياسي – خلافاً لإدعاءات الولايات المتحدة بأنها في صراع عالمي ضد القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
من وقت لآخر، فإن بعض الأشخاص الذين التقينا بهم أشاروا أيضاً إلى طرق يمكن للولايات المتحدة من خلالها حماية المدنيين في اليمن بشكل أفضل. أحد المطالب التي سيطلبها الناجون من هجمات الطائرات بدون طيار هي قائمة بالأشخاص المطلوبين. قائمة واضحة ومتاحة للجمهور بحيث يمكنهم تجنب الأشخاص المستهدفين وحماية أطفالهم وعدم السماح للمستهدفين من قبل الولايات المتحدة في أن يكون لهم وجود في مناطقهم. سوف يزعم بعض السكان المحليين الذين سنقابلهم أن عدداً من الهجمات استهدفت الأطفال أو المدنيين العاديين الذين لم يفعلوا أي شيء قد يثير الشكوك أو يشير إلى أنهم خطرون أو متورطون في أعمال إرهابية. بالنسبة لهم، فإنه قد يكون من شأن وجود قائمة بالأشخاص المطلوبين منع المزيد من الأذى في صفوف المدنيين.
ناصر مبخوت هو واحد من اثنين من الناجين من غارة مزعومة بطائرة بدون طيار أمريكية في 2 ديسمبر 2012م. كان يقود سيارة على متنها مجموعة من المدنيين عائدين من السوق إلى قرية السبول، عندما تعرضت السيارة لغارة من طائرة بدون طيار أمريكية. في ذلك الوقت، كان الهجوم واحداً من أكثر الهجمات دموية على الإطلاق، حيث أسفر عن مقتل 12 مدنياً، من بينهم ثلاثة أطفال وامرأة حامل، وإصابة اثنين من المدنيين أيضاً.
خلال مقابلة في منزله في قرية السبول، قال لنا ناصر: “لم أكن قلقاً على الإطلاق عندما رأيت الطائرة تحلق فوقنا. كنت واثقاً من أن لديهم أهدافاً محددة، وأن هذه الأهداف هم أعضاء في مجموعات إرهابية، بينما نحن مجرد باعة وعمال. كنت قد سمعت الكثير عن أن هذه الطائرات ذكية للغاية، وأنها تعرفت على أهدافها وكانت دقيقة للغاية في ضرباتها. بينما كنا نراقب الطائرة، كنا نضحك ونتبادل النكات إلى أن أوقفنا أحد صواريخها، الذي أصاب سيارتي وفتك بالناس الذين كانوا فيها.”
تم إخبارنا من قبل مسؤولين أمنيين محليين وقادة اجتماعيين وشهود عيان على الضربات الأمريكية باستخدام طائرات بدون طيار في اليمن بأن الضربات استهدفت أفراداً في مناطق وظروف كان من الممكن فيها اعتقالهم والتحقيق معهم ومحاكمتهم في محكمة قانونية. في أواخر العام الماضي، أخبر محافظ مأرب الباحثين أن الولايات المتحدة نفذت هجوماً بطائرة بدون طيار في شهر نوفمبر 2017م ضد هدف كان يمكن لقوات الأمن التابعة له الوصول إليه. أعرب المحافظ عن أسفه لعدم قيام الحكومة الأمريكية بتقديم معلومات للقوات المحلية التي ربما أدت إلى اعتقال المشتبه في صلتهم بالإرهاب.
هذا الأمر يقود إلى إثارة عدد من الأسئلة. ما مدى خطورة المشتبه بهم المستهدفين في هذه العمليات؟ ما مدى جدوى اعتقالهم والتحقيق معهم ومحاكمتهم في المحكمة؟ ما الذي تستخدمه الوكالات الأمريكية لتحديد من هو المشتبه به عند قيامهم بإعداد قائمة القتل؟ هذه الأسئلة وأخرى كثيرة تظل دون إجابة.
دورة العنف
سافر فريقنا البحثي أيضاً إلى قرية في منطقة قيفة في اليمن في 26 مايو 2013م. هذه المنطقة هي واحدة من المناطق الأكثر استهدافاً بالطائرات بدون طيار. أثناء وجودنا هناك، سمعنا عدداً من الرجال ممن هم أقارب لضحايا مدنيين سقطوا في ضربة نفذتها طائرة بدون طيار فيما كانوا يتناقشون بصوت عال حول ما إذا كان ينبغي عليهم خطفنا للضغط على الحكومة الأمريكية للنظر في حالات ضحايا هجمات الطائرات بدون طيار في اليمن. كانت المجموعة التي تتبني هذه الفكرة تحاول إقناع بقية الرجال بأننا نعمل لصالح منظمة أمريكية، مؤسسة المجتمع المفتوح، وأن هذه المنظمة يمكن أن تضغط على الحكومة الأمريكية للنظر في حالات ضحايا هجمات الطائرات بدون طيار في اليمن. كنا محظوظين لأن أحد رجال القرية، الذي كان أيضاً مرشدنا في المنطقة، أخبر الآخرين أنه لا يمكنه أن يسمح لهم بخطفنا لأننا كنا ضيوفه وتحت حمايته. في نهاية المطاف، تمكنّا من مغادرة المنطقة دون أية مشاكل.
مع ذلك، فإن الحادثة تُظِهر كيف أن أسر الضحايا، وكثير منهم من المزارعين الفقراء الذين انتظروا طويلاً من أجل الاعتراف بالأضرار التي لحقت بهم، ومن أجل العدالة من خلال الوسائل القانونية ، تبدأ في التفكير في “حلول” عنيفة لمشاكلهم. . ينبغي على الحكومة الأمريكية أن تدرك أن اليمنيين على الأرض يشعرون بأن الممارسات الأمريكية التي تتجاهل الأذى الذي يلحق بالمدنيين لا تجردهم من إنسانيتهم فحسب، بل أنها ستؤدي أيضاً إلى نتائج عكسية لأهداف الولايات المتحدة على المدى الطويل في مكافحة الإرهاب.
يمكن أن يكون الاعتراف بمقتل المدنيين بطريق الخطأ خطوة حيوية نحو منع المزيد من أعمال العنف. لقد رأيت بعض الحالات التي أقتنع فيها أقارب ضحايا مدنيين لهجوم طائرة بدون طيار لأول مرة أن الهجوم كان خطأ، وأن الولايات المتحدة وحليفتها الحكومة اليمنية سوف تعتذران رسمياً عن الهجوم، وتوفير العدالة والتعويض للضحايا. عندما لا يتم تقديم هذا الاعتذار والتعويض، يعمل الأقارب على لفت الانتباه إلى قضيتهم لإبراز أن أقاربهم هم ضحايا مدنيين، وعندما لا يكون هناك رد فعل أو استجابة من الحكومة الأمريكية بعد تلك المحاولات، فإنه لا يتبقى للأسر سوى التفكير في الانتقام. في هذه الأثناء، تقف القاعدة والجماعات الجهادية المماثلة على أهبة الاستعداد للاستفادة من مشاعر السخط والظلم هذه واستغلالها.
لقد تنامت إمكانات جماعات العنف للاستفادة من سخط المدنيين في السنوات الأخيرة فقط. منذ بداية النزاع الحالي الذي ينطوي على جماعة الحوثي الطائفية من جهة والتحالف الذي تقوده السعودية بدعم من شركائها الدوليين من جهة أخرى، تمزق اليمن وتم تدمير مؤسساته بالكامل تقريباً. هذه البيئة جعلت من السهل على الجماعات الجهادية أن تزدهر. لقد سمحت الحرب للقاعدة بالخروج من العزلة والتوسع، ولذا فهي الآن، في ظل استمرار الأزمة في اليمن، أكثر حضوراً في المناطق التي ستصبح فيها أكثر تقارباً مع هذه الجماعات – ليس أقله إذا استمرت الولايات المتحدة في إمطار البلاد بهجمات الطائرات بدون طيار وشن غارات مميتة على الشعب اليمني.
نحن محظوظون لأنه كان من الواضح لنا أن الكثير من الناس في المناطق المختلفة التي عملنا فيها يرفضون في الوقت الحالي تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية، حتى وفي ظل شعورهم بالغضب من أن ضربات الطائرات بدون طيار قد قتلت أقاربهم من المدنيين. هذا الأمر أدى إلى الحد من نفوذ القاعدة في اليمن. لكن في كل مرة لا تعترف فيها الولايات المتحدة بأي ضربة بطائرة بدون طيار تؤدي إلى الإضرار بالمدنيين، فإن خطر أن يتحول الناس إلى تنظيم القاعدة سوف يتنامى.