المحتجزون بين عتمة السجون والموت القادم من السماء

عاينتُ رقعة الخراب الذي أصاب مباني كلية المجتمع في ذمار التي أتخذتها جماعة أنصار الله المسلحة (الحوثيين) محتجزاً، رأيت مشاهداً مرعبة يرثى لها القلب، قطع أجساد متناثرة في كافة أرجاء ساحة الكلية، في حين كانت جمعية الهلال الأحمر اليمني تحاول بصعوبة تجميع أشلاء الضحايا في أكياس بلاستيكية.

November 19, 2019
كراسة أحد الضحايا الذين استهدفهم القصف داخل المُعتقل. ©مواطنة لحقوق الإنسان
كراسة أحد الضحايا الذين استهدفهم القصف داخل المُعتقل. ©مواطنة لحقوق الإنسان
19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019
علي عبدالله،باحث في مواطنة لحقوق الإنسان

يتجرع المحتجزون والمختفون قسرياً لدى الأطراف المتنازعة في اليمن صنوف مختلفة من الانتهاكات، ففي عتمة تلك السجون حيث يئنون لا يملكون شيئاً يصبرون به أنفسهم سوى أمل الانعتاق والتحرر. ثم فجأة يحدث أن يُسلب منهم حتى هذا الأمل، وقد وجدوا أنفسهم أمام مواجهة مباشرة مع الموت القادم من السماء. موت يواجهونه وكواحلهم مصفدة بالأغلال، فلا يملكون قدرة على الهرب والنجاة بأنفسهم.

هذا ما حدث بالفعل ليل السبت 31 أغسطس/آب 2019 عند حوالي الساعة 11:45 بتوقيت صنعاء، عندما ألقت مقاتلات التحالف بقيادة السعودية والإمارات بقنابلها على مركز احتجاز تابع لجماعة أنصار الله (الحوثيين) في الطرف الشمالي لمدينة ذمار (جنوب العاصمة صنعاء)، كان يقبع فيه ما يقارب 170 محتجزاً، محشورين في مبنى صغير مكون من طابقين، ما أودى بحياة معظمهم. وقد تحولت كلية المجتمع بذمار إلى مكانٍ للاحتجاز منذ العام 2015.

في تلك الليلة أوقعت الضربة الجوية ما لا يقل عن 96 قتيلاً بينهم سبعة أطفال و 40 جريحاً، توزعت أشلاءهم في باحة كلية المجتمع واختلطت دمائهم بالاسمنت والحجارة، كانت تلك الهجمة المرعبة شاهداً إضافياً على التكلفة الباهضة التي يدفعها اليمنيون المحميون بالقانون الدولي الإنساني في هذا النزاع المسلح.

“ذهبتُ إلى خلف المبنى المستهدف لمشاهدة زنزانة دُمرت جزئياً، وليتني لم أذهب. كانت غرفة مملوءة بالأجساد الممزقة، وفي إحدى زوايا الزنزانة حيث اشتعلت النيران، أُحرقت بعض الجثث لتتصاعد منها رائحة شواء نفاذة أصابتني بالدوار”.

في صباح اليوم التالي، كنت ضمن بعثة “مواطنة” لزيارة موقع الهجوم الدامي، وعاينت رقعة الخراب الذي أصاب مباني كلية المجتمع في ذمار التي أتخذتها جماعة أنصار الله المسلحة (الحوثيين) محتجزاً، رأيت مشاهداً مرعبة يرثى لها القلب، قطع أجساد متناثرة في كافة أرجاء ساحة الكلية، في حين كانت جمعية الهلال الأحمر اليمني تحاول بصعوبة تجميع أشلاء الضحايا في أكياس بلاستيكية.

أثناء ما كنت أحاول الحركة بين الأنقاض ذهبت إلى خلف المبنى المستهدف لمشاهدة زنزانة دُمرت جزئياً، وليتني لم أذهب. كانت غرفة مملوءة بالأجساد الممزقة، وفي إحدى زوايا الزنزانة حيث اشتعلت النيران، أحرقت بعض الجثث لتتصاعد منها رائحة شواء نفاذة أصابتني بالدوار. تألمت بشدة وتصاعد داخلي نشيج بطيء مخنوق من هول ما رأيت.

في مستشفى ذمار العام، كنت أنظر بإمعان إلى ناجِ عمره يقارب 19 عام يجلس مسترخياً على سريره، كان ملمح وجهه حافلاً بالأمان، بدى لي مطمئناً كما لو أنه أفلت من قبضة الموت للأبد، تحدثت إليه وقال لي “شعرت باهتزاز شديد لجدران المبنى عندما ارتطم الصاروخ الأول به، تجمعنا عند بوابة الزنزانة نتوسل فتح الباب، بغتة لم أعد أشعر بشيء ، ثم أفقت على وقع أقدام واصوات تبحث عن ناجين، صرخت بأعلى صوتي أنا هنا، غير أنهم لم يستطيعوا تحديد مكاني، فأخبرت أحدهم أنني عالق تحت قدميه”.

لم تكن هذه الهجمة المريعة هي الوحيدة، بل سبق وأن تعرضت كلية المجتمع بذمار لهجمة جوية في العام 2015، إلى جانب قيام التحالف بعدة هجمات على مراكز احتجاز أخرى ،ففي 21 مايو/أيار 2015، استهدف التحالف بناية في جبل هران بمدينة ذمار استخدمتها جماعة الحوثي كمركز لاحتجاز مدنيين بينهم صحفيين اثنين. كما أقدم أيضاً في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2016 على قصف سجن الزيدية بمحافظة الحديدة. وكذلك في 13 ديسمبر/كانون الأول 2017، شن هجوماً على مركز احتجاز في مقر الشرطة العسكرية بصنعاء.

وثقت “مواطنة” خلال 2018 فقط، 150 غارة جوية شنها التحالف في 11 محافظة يمنية أسفرت عن مقتل 375 مدنياً على الأقل، بينهم 165 طفلاً، وجرح 427 مدنياً، بينهم 172 طفلًا.  كما وثقت “مواطنة” في ذات العام ما لا يقل عن 132 واقعة احتجاز تعسفي و91 واقعة اختفاء قسري قام بها الحوثيون في المناطق الخاضعة لسيطرتهم.

وخلال فترة النزاع الجاري، مارست أطراف الحرب في اليمن؛ جماعة أنصار الله المسلحة (الحوثيين)، والقوات التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، والتحالف بقيادة السعودية والإمارات، إلى جانب قوات المجلس الانتقالي الجنوبي والنخب المسلحة (القوات الإماراتية بالوكالة) اعتقالات تعسفية ومارست الاختفاء القسري بحق مدنيين في المناطق الخاضعة لسلطاتهم. وفي كثير من الأحيان، يكون المحتجزون تعسفياً والمختفون قسرياً عرضة لمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان كالتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.

وقد نقلت جماعة انصار الله (الحوثيون) الى سجن كلية المجتمع بذمار مجموعة من المحتجزين المقاتلين في عام 2017، وينصاع السجناء هناك لجلسات استجواب قاسية تستخدم فيها أساليب تعذيب متنوعة لاستخلاص الاعترافات، منها؛ الضرب المبرح والحرمان من التبول، استخدام مكبرات الصوت لإصدار ضجيج يمنع النوم، والإهانة وسوء المعاملة.

ففي كلية المجتمع بذمار -التي تحولت إلى مكانٍ غير رسمي للاحتجاز في العام 2015- قيدت حرية المحتجزين ضمن ظروف احتجاز هي الأبشع، إذ يعيش المحتجزين في عزلة غير قادرين على لقاء ذويهم، ويكابدون أوضاعاً نفسيةً صعبة تشعرهم بحالة من اليأس والانكسار. فبالنسبة لاولئك الذين حرموا حرمانا كاملاً من الحرية تصبح الحياة التي يعشونها بلا معنى.

كان يُطهى لهم الطعام دون مراعاة للشروط الصحية، وغالبا ما يُقدم لهم الفول في قدور كبيرة متسخة غاصة بالماء، ولولا الخشيةُ من الموت جوعاً لما ذاق المحتجزون طعمها. تحملوا كل شيء في انتظار يوم يعانقون فيه الحرية ويلتقون بأحبتهم، ولكن الموت جاءهم من حيث لا يحتسبون.

تحدثت إلى ناجٍ آخر ممن أصيبوا بسبب القصف الذي طال كلية المجتمع، عما عاناه في المحتجز فقال بصوت مرير: “كانت حياة السجن جحيماً لا يطاق”. وبحسب معلومات تحصلت عليها “مواطنة” لم تكن سلطات الاحتجاز تهتم بنظافة الزنازين، ما أرغم المحتجزين التعايش مع القاذورات والنفايات المتكدسة، والعيش على مقربة من الحمامات المتسخة ذات الروائح النتنة. فيما كان يُطهى لهم الطعام دون مراعاة للشروط الصحية، وغالبا ما يُقدم لهم الفول في أقدار كبيرة متسخة غاصة بالماء، ولولا الخشيةُ من الموت جوعاً لما ذاق المحتجزون طعمها. تحملوا كل شيء في انتظار يوم يعانقون فيه الحرية ويلتقون بأحبتهم، ولكن الموت جاءهم من حيث لا يحتسبون.

في اللحظات الأولى التي أعقبت وصول فريق “مواطنة” الى كلية المجتمع في ذمار رأيت في منتصف الركام (كُراسة) مستريحة على الأرض تعود لأحد المحتجزين، كتب فيها شعراً ملهماً بعنوان “صبراً أخي ..”، يتحدث عن عزم لا يلين، عن يقين قاطع يُفصح عن استحالة حبس أو خنق الاحلام المتطلعة لغدٍ أفضل، لوطنٍ يحتضن جميع ابناءه بسلام.

بعد بفترة قصيرة من الهجمة الجوية الدامية لمركز الاحتجاز بكلية المجتمع بذمار، تم الإفراج عن الـ 42 محتجزاً الذين نجوا منها، وبقدر ما كان تلك فرحة كبيرة للمحتجزين المفرج عنهم وأهاليهم، بقدر ما كانت غصة مرة لكل أولئك الأهالي الذين انتظروا هذه اللحظة طويلاً ولكنها لم تعد ممكنة.