بين تلك الجدران، يُدرِك المرء أنها لا تُسرَق الدقائق والساعات فحسب، بل تُسرَق سنواتٌ بحالها، فيغدو الرضيع طفلًا والشاب كهلًا.
بين تلك الجدران، يُدرِك المرء أنها لا تُسرَق الدقائق والساعات فحسب، بل تُسرَق سنواتٌ بحالها، فيغدو الرضيع طفلًا والشاب كهلًا.
يقضي مازن -اسم مستعار- (32 سنة)، عامَهُ السادس بين جدران سجّانيه، ليس لشيء، إلا لأنه في وطنٍ تُمزّقه الحروبُ وتجتاح أراضيه التدخلاتُ الأجنبية، فضاعت أبسطُ حقوقِ الإنسان، وأصبحت أحكام القضاء حبرًا على ورق، ما لم تحمِه سطوة جماعة أو قوة سلاح.
يكبر مازن في السجن، بينما يكبر في خارج أسواره (بيت عمه) طفلاه؛ فيُفطم محمد من الرضاع ويجيد الكلام، وتُسجَّل مريم في المدرسة وتتخطى عتبة الصف الأول بنجاح. كل ذلك وهم في حالة حرمان أبويّ وفقدان للدعم للنفسي، عدا ما تستطيع أن تقدمه لهما أمهما.
منذ ظهيرة السبت الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٦، يقضي مازن بين تلك الجدران سنينَ من عمره دون ذنب اقترفه، وهو البريء بأحكام القضاء بدرجتالابتدائية والاستئناف، وإن اختلفت هذه الجدران بين معتقل الريان إلى خلف قضبان السجن المركزي بالمكلا، حيث يقضي عقوبة بدون جريمة، بَيدَ أنّها كلها سرقت سنين عمره.
ذهب مازن في تلك الظهيرة ولم يعد إلى البيت، برغم انتظار مريم (٤ سنوات) ومحمد (سنتان)، ليلاعبهما قبل الغداء وليطعمهما بضع لقيمات بيده كما هي عادته، لكنه اختفى -حينها- قسرًا، ومعه اختفت البهجة والفرحة من داخل تلك الأسرة الصغيرة، قبل أن تتحرك ضمائر سجّانيه النزر اليسير تحت ضغط وإلحاح أسرته وأقاربه وأصهاره لمعرفة مصيره، لتعترف بمسؤوليتها عن واقعة اختفاء مازن قسرًا.
“عندنا، والزيارة ممنوعة”
بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر منذ إخفائه، أقرّت قيادة القوات الإماراتية بمطار الريان -التي اتخذت منه مقرًّا للقيادة ومعتقلًا- بأنها هي من أمرت قوات النخبة الحضرمية بإلقاء القبض عليه، وأنّ مازنًا بقبضتهم، ولكن تُمنع زيارته أو حتى سماع صوته، لتبدأ معها قصة مأساة إنسانية أبطالها مريم ومحمد وأمهما (31 سنة)، الذينَ انقطع مصدر رزقهم، وسُلِّمَت الشقة التي كانوا يقطنون فيها لمالكها، ليتربى الطفلان بعيدًا عن صدر درعهم الواقي، وتتلاشى من حياتهم كلمة (بابا).
تمرّ السنوات قبل أن تسمح لهم القوات الإماراتية برؤية أبيهم إلا من خلف سياج حديدي ومن على بعد مسافة متر. يرى محمد أباه، وبالكاد يميز كلٌّ منهما ملامح الآخر. لقد استكثروا عليهما حتى حضنًا دافئًا من صدر بعضهما.
وصف علي (خال الضحية) ذلك المشهد بكل تفاصيله. لحظة اللقاء الأول بعد سنوات من الاختفاء القسري، قال: “كان الكل يبكي، حتى أنا لم أتمالك نفسي من البكاء عند رؤيتي لمازن ينتحب من شدة البكاء”.
أسوأ ما قد تقع فيه من المواقف، هو أنك لا تدري أتبكي فرحًا أم تبكي حزنًا. شعور مضطرب، يصعب نفسيًّا على الإنسان البالغ أن يعيش تلك التناقضات، فكيف بطفلة كمريم عمرها ٦ سنوات. لقد تحملت أكبر مما يمكن لطفلة في تلك السنّ أن تتحمله.
لك أن تتخيل كيف ينشأ هذان الطفلان، ومن يصرف عليهما قرابة الست سنوات بدون عائل. أمرٌ صعب جدًّا في مجتمع يمني يقبع أغلب مواطنيه تحت خط الفقر. بالكاد يجد الغالبية ما يسدون به رمق أسرهم.
الساعة ١١:٣٠ صباح الثلاثاء يناير/ كانون الثاني ٢٠٢١، كنت قد التقيت علي (خال الضحية) بعد عودته من زيارة إلى السجن مع الطفلين وأمهما وجدة الضحية لأمه.
لقد كبر الطفلان منذ آخر مرة التقيتهما في مهمة حقوقية. قبل قرابة ثلاث سنوات. مريم الآن بعمر ٩سنوات، ومحمد ٦ سنوات. كانا يحدثان أمهما: “نريد أن نرى أبي؟ لماذا لا تأخذينا؟”.
تنحت الأم بهم جانبًا، فيخبرني علي بأن إدارة السجن رفضت دخول أبناء المعتقلين لزيارة آبائهم ودون إبداء أسباب. كان قد لفت انتباهي تشبث محمد بثوب أمه، وهو يقول: “أريد أشوف أبوي”.
مشهد يقطع القلب، ويُجبر مقل العين على الدمع. بأي ذنب يحرم هذا الطفل من رؤية أبيه المحكوم ببراءته؟!
في ٢٠١٩، حكمت المحكمة الجزائية المتخصصة ببراءة مازن من جميع التهم المنسوبة إليه، وأيّدت الشعبة الاستئنافية حكم البراءة. امتلأت قلوب أهله ومحبيه فرحًا، وغمرت السعادة محيّا كل واحد منهم.
كان يفترض أن يخرج مازن في يوم النطق بحكم محكمة الاستئناف امتثالًا لأحكام القانون اليمني، لكن ضُرب بتلك الأحكام عرض حائط العنبر السياسي بالسجن المركزي بالمكلا، حيث يقبع مازن بين أربعة جدران، لا صوت يعلو فوق صوت المسؤول في التحالف بقيادة السعودية والإمارات.
يحكي خال الضحية أنّ مريم تدرس بالصف الثاني الابتدائي، وفي إحدى المرات عادت للبيت منكسرة وتبكي: “لماذا أبي هناك؟ لماذا لا يعيش معنا؟ كلهم آباؤهم عندهم ويجلبون لهم الهدايا”.
كانت أمّ الطفلين، مع تحرك المنظمات الحقوقية الأخيرة في شهري فبراير/ شباط ومارس/ آذار ٢٠٢١، على خلفية محاولات انتحار لمساجين العنبر السياسي- قد ألقت بصيص أمل في قلبَي مريم ومحمد بقرب عودة أبيهم، لكن تلك الآمال تلاشت وتبخرت مع تعنُّت إدارة السجن المركزي ومِن خلفهم القيادة الإماراتية، في الإفراج عن معتقلي قائمة الـ٢٦ الذين من ضمنهم مازن.
هكذا أُحيلت سعادة الأم وطفليها إلى حزن مع رفع تكبيرات عيد الفطر من مآذن المساجد، عشية الأربعاء ١٢ مايو/ أيار ٢٠٢١، ولسان حالهم “عيد بأي حال عدت يا عيد”.
تحكي أم محمد (زوجة مازن): “منذ تاريخ اعتقال مازن، وأنا أعيش في بيت أبي وبين إخوتي. لكن هذه المرة لست وحدي فلدي طفلان.
أبي لا يقصّر معي وكذلك إخوتي، لكن لا يمكن لأحد أن يشغر المكان الذي تركه مازن، فضلًا عن أنّ إخوتي عُمّال يكدحون بأجرهم اليومي، ووالدي مريض فلم يعد كسب الرزق بالشيء الهين عليه.
أنا بين نارين؛ بين أني لا أريد أن أُظهِرَ أهلي في موقف المقصّرين، وحاشاهم، فهم آوونا عندما فقدنا المأوى، وسترونا حينما أراد الغير كشف حالنا، وأطعمونا حين ظنّ من ظنّ أننا سنجوع، وبين نار أبنائي محمد ومريم، اللذينِ لا أريدهما أن يشعرا بالحرمان، فلقد اضطررت أن أعودهم على نوع معين من الملابس.
مريم ألبستُها العباءة السوداء من سن السابعة، حتى لا تحس بأنه ليس لديها من الملابس ما يكفي كأقرانها من البنات، بينما محمد عودته على لبس الثوب فهو لا يرتدي البنطال والقميص إلا فيما ندر…”، خنقت العَبرةُ الأمَّ ولم تستطع أن تكمل.
قالت بصوت منخفض: “الله معنا”. ألمٌ يعتصر قلب المستمع، فما بال قلب المتحدث؟! لم أشعر بنفسي إلا وأنا أمسح عن عيني دمعة، لم تكن الجدران تسرق أحلى سنين مازن في السجن وحدَه، بل أم محمد ومريم ومحمد.
كانت جدة مازن في الزيارة، وقد تجاوزت الـ٧٥ سنة. توجهت إليّ: “متى سيخرجونه يا ابني؟” تقصد مازنًا. تابعت قائلة: “ابنته قدها تدرس، وابنه قده يتكلم”، هنا شعرت بفارق السنين وفعلها في حياة هذه الأسرة الصغيرة؛ فمازن اعتُقل عندما كان محمد طفلًا رضيعًا لا يقدر على الكلام، واليوم صار صبيًّا يطلب الالتحاق بالمدرسة.
غادرونا مريم ومحمد وأمهما. كنت أرقب خطواتهم وهم يتوجهون لبيت جدهم، وأتحسس بوجداني آلامَ عدمِ رؤيتهم لأبيهم. عودة كباقي الخيبات التي أثقلت كاهلهم من كثرة الانتظار، ودعوات من أم محمد لا تكف تطلب أن يجلي الله هذه الغمة ويعود مازن ليكمل تربية طفليه.
تظل تلك الجدران، أينما وجدت وأحاطت بهذه العائلة الصغيرة، تسرق أعمارهم وتسرق منهم أحلى أوقات العمر. وصمة عار على الإنسانية أن تُيتّم مريم وأخوها، بينما أبوهم على قيد الحياة. ستظل أم محمد تحكي لابنيها أن عودة أبيهم محتومة، لكن على ما يبدو أنها مرتبطة بعودة وطنٍ فقدَه اليمنيون يوم الـ21 سبتمبر/ أيلول 2014، وعشية 26 مارس/ آذار 2015.