السلاحان اللذان قتلا بسيم
مع إستمرار الحرب هوت كثير من الأسر اليمنية في حالة العوز. ووصل الحال ببعضهم إلى الفقر الكامل في ظل إنعدام فرص العمل، وهناك أسر شردتها الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولاجمل.
بسيم (اسم مستعار) ذو التاسعة من العمر، طفل يعيش في أسرة أكل عليها الفقر وشرب، يشاهد الحالة المتدهورة لابيه الذي أصيب بذبحة صدرية قبل عام وثلاثة أشهر بسبب ضيق الحال، وقهراً على منزله بمدينة حرض الذي حوّلته جماعة أنصار الله (الحوثيين)، إلى ثكنة العسكرية، بعد نزوحه منه.
ولدى بسيم إلى جانب أمه وأبيه، أختين الأولى تصغره بعام والأخرى بثلاثة أعوام، ولذا حكمت الظروف عليه أن يكون العائل الوحيد لأسرته، مع إن جسمه النحيل لا يمكنه تحمل أعمالاً شاقة، ونار الحاجة تحاصره من كل ناحية، إلا أن عزة نفسه منعته من أن يذهب لسؤال الناس.
لا يتوقف بسيم، بل يذهب كل صباح إلى أمام محلات التجار بسوق منطقة أسلم الوسط، مديرية أسلم، محافظة حجة، ليعمل معهم ولو بأجر خمسمائة ريال في اليوم، ليسد رمق جوع أسرته. في يوم من أيامه الشاقة رأى بسيم صديقه سليم الذي كان قد عاد لتوه من جبهة القتال، فجلس إلى جانبه.
حدّثه سليم عن كيف أنه يستلم قرابة مبلغ 30 ألف ريال (حوالي 50 دولاراً) بالشهر، مقابل خدمات قتالية يقوم بها لصالح جماعة أنصارالله (الحوثيين). ولم يكن لليل أن يأتي إلا وبدأت الأفكار تراود الجمجمة الصغيرة لبسيم، معتقداً أن ما قام به صديقه هو الطريق السهل لمكافحة فقر أسرته.
ومع اشراقة شمس اليوم التالي، الذي يوافق 18 فبراير/ شباط 2017 غادر بسيم منزل أسرته إلى حيث يسكن صديقه سليم، وأخبره برغبته الألتحاق بجبهة القتال، رد سليم: يومان، وسنذهب سوياً.
بدأ بسيم الاستعاد للمغادرة دون أن يخبر أي من أسرته برغبته التحوّل إلى مقاتل، خوفاً على صحة والده، ولعلمه أن أمه سترفض الأمر، فلجأ إلى حيلة اختلاق قصة.. أخبر الأسرة أن صديقاً له في صنعاء تواصل معه وأوجد له عمل بمطعم هناك، وأنه قرر السفر.
انطلق بسيم مع صديقه نحو جبهات القتال في منطقة حرض، وغابت أخباره لفترة من الزمن، وبعد شهرين أرسل مبلغ من المال لأسرته وطمأنهم أنه بخير.
اطمأن قلب أمه الذي تعذب لفراقه شهرين كاملين، لكن روحها استلبت منها بإنقطاع أخباره مرة أخرى، وسآت حالة والده، لكن بسيم عاد إليهم ليطمئنهم، لكنها كانت ليلة واحدة فقط، حين أتته مكالمة هاتفية، تلعثم خلالها بسيم في الرد، ثم نظر إلى عيون والديه التي كانت لاتزال تذرف دموع الفرح لمقدمه.
أنحنى بسيم على رأس أبيه، وقدمي أمه لتقبيلها، قائلاً: أنا مضطر لمغادرتكم لفترة بسيطة، وسأعود قريباً. بكت الأم وتساقطت الدموع على خديها، وكذا فعل الأب المريض، فلم تعد تنطلي عليهم كذبة أنه صار يعمل في مطعم، فبشرته الداكنة وملمحه المتعب لا يشيان بأنه يقوم بعمل عادي. وكانوا قد سألوه لماذا عاد لهم على هذا النحو بالرغم من جو صنعاء البارد، لكنه قال لهم: أنا أعمل بمنطقة حارة الطقس خارج صنعاء، فاقتنعا على مضض. إنقطعت أخبار الطفل مرة أخرى، وما هي إلا خمسة أيام، حتى أتى زائر يدق باب منزل أسرة بسيم. فتحت له الأم، لتشاهد على عتبتها مسلحين يبدو من سيمائهم أنهم يتبعون جماعة أنصارالله (الحوثيين). سألها أحدهم: أنت أم أبو فداء؟
ردت الأم، وهي في حيرة من أمرها: أبو فداء؟ من هو أبو فداء؟ لا يوجد لدي ابن بهذا الاسم، ولدي اسمه بسيم. أعاد المسلح لها السؤال: وأين هو ولدك بسيم. فردت عليهم أنه في صنعاء يعمل في مطعم صديق له.
هكذا أغلقت الأم عليهم الطريق، فلم يجدوا سبيلاً لإخبارها أن (أبو الفداء) هي كنية ابنها بسيم، بعد إلتحاقها بجبهات القتال. قال أحدهم: كان مقداماً وبطلاُ وشجاعاُ. قاطعته الأم: أي مقدام وأي شجاع وأي بطل؟ ابني طفل ويعمل في مطعم.. أنتم مخطئون أيها الإخوة.
ضحك أحدهم ضحكة صفراء، ورد على الأم: لا، يا والدتي وأختي، ابنك بسيم مجاهد وبطل.
تغير لون الأم وشحبت بشرتها وتلعثمت لسانها، لكن زوجها (والد بسيم) كان قد خرج، واستمع لبعض ما دار، ففطن لبعض الأمر، فسألهم: هل قتل ولدي؟ فترد الأم فزعة وهي تحاول أن تسكته: ماذا تقول؟ إسكت، أجننت؟!
قال الأب وهو لا يحير جواباً: طالما أتوا، فبسيم ذهب..
حشرج صوت الأم وأصفر لونها، وهي تحاول أن تقرأ في وجوه القادمين غير ما يعتقده زوجها، لكنها لم تجد غير ذلك. قال أحد المسلحين: إنه لم يمت.. أبو الفداء فاز وأرتقى.
أمسكت الأم بتلافيف ثوب المسلح، وتشبثت به: ماذا تقول؟ أين ابني بسيم؟ من أنتم؟
أعقب المسلح: أحمدي الله يا أختاه.. بسيم اصطفاه الله وأختاره إليه دون غيره. بسيم شهيد، وأنت تعرفي مقام الشهادة.
لم يكن يكمل خطبته، إلا وكانت الأم قد صارت مثل فراش الأرض.. لقد سقطت مغشية عليها، وهي ترتعش وتتمتم باسم طفلها: بسيم، بسيم، بسيم..
قتلوا ولدي بسيم..