في عينيها الوطن
كنا نظن أننا سنوثق قضية أخرى قد اعتاد قلبنا على تحمل مآسيها، لكن عندما استهلت آية حديثها بقولها: “كان يوماً من أسوأ أيام حياتي” عرفتُ أنني أمام قصة مختلفة، ترويها فتاة صغيرة بعمرها؛ كبيرة بأفعالها.
بدأت تحكي قصة معاناة وظلم فقدت خلالها الأمان والعائلة، وهي فتاة انفصل أبواها منذ صغرها وتعيش مع والدها في منزلهم الصغير وحيدين وسعيدين، وتعيش أمها في بيت مختلف.
في 27 مارس/ آذار 2019 خرج والدها بعد أن وصله اتصال هاتفي من صديق له يطلب منه المساعدة في قضية أرض، ووالدها محامي يفوق عمره السبعون عامًا، فبعد ضغط وافق الحاج محمد إسماعيل المخمري على الخروج الى منطقة العشاش، أمانة العاصمة، مع صديقه.
تقول آية: “أبي لم يتأخر أبداً في العودة إلى المنزل بعد السادسة مساءً في حياتنا كلها، ولكنه في ذلك اليوم خرج ولم يعد” اكتشفت آية لاحقاً- بعد سنة ونصف- أن والدها تعرض للاختفاء القسري لدى جهاز الأمن والمخابرات التابع لجماعة أنصار الله (الحوثيين)”.
في أحد الأيام في نهاية العام 2020 تقريباً جاء رجل مسلح ومعه مجموعة من المرافقين يتبعون أنصارالله (الحوثيين) إلى منزل آية الذي أصبحت تعيش فيه وحيدة بعد إخفاء والدها، وقال لها إنهم يحتفظون بوالدها لحمايته من غرمائه الذين يريدون الاستيلاء على أرضه، ولم تصدّقه في البداية، وطلبت ورقة مكتوبة بخط يد والدها وفعلاً أعطوها رسالة مكتوبة بخط يده ما جعلها تصدق أنهم يقومون بحمايته. تقول آية: “كنت لا أتجاوز السادسة عشر من عمري حينها، وكنت أصدقهم، كنت طفلة تصدق كل شيء”.
تستمر آية بالحديث وقد امتلأت عيناها بالعزم والقوة والثقة، تحركت وقتها ابنة السادسة عشرة سنة لتتابع قضية أبيها وتقول: “ليس هناك أحد غيري سيقوم بذلك، لا أملك في الدنيا سواه”، ذهَبَتْ إلى مبنى (الأمن القومي سابقًا) تريد رؤيته، أخبروها أنه تم نقله إلى مبنى الأمن السياسي (الأمن والمخابرات حاليًا) وأن ملف القضية هناك، فانطلقت إلى مبنى الأمن والمخابرات وأكدوا لها أن والدها يقبع هناك ولكنهم رفضوا السماح لها بزيارته.
وقفت آية ترفض التراجع من أمام مبنى الأمن المخابرات ذاك إلا برؤية والدها، وعندها سُمح لها بالدخول ورؤيته، دخلت إلى غرفة تسمى (الانتظار) ورأت وقتها والدها لأول مرة منذ سنة وستة أشهر.
مع ذلك لم ترَ والدها، كان شيئًا يشبه أباها، هزيل ومتعب ومتورم الجسد ولا يقوى على المشي، قَدِم اليها يسنده اثنان من المسلحين بعد أن خرج من منزلهم تحمله قدمان صحيحتان، بدأت آية بالصراخ: “ما الذي فعلتوه بأبي؟!”. حكى لها والدها كيف تعرض للتعذيب لمدة ستة أشهر متواصلة، وأنهم كانوا يسمعونه تسجيلات لفتيات يصرخن ويقولون له أن ابنته محتجزة لديهم.
كانوا يضربونه بشكل متواصل في كل أنحاء جسده، غادرت آية زيارتها هذه وقد جُن جنونها، فما كان منها إلا أن بدأت بالتقاط الحجارة ورميها على مبنى الأمن والمخابرات في مشهد مليء بالغضب وقلة الحيلة والشجاعة في آن. أطل عليها من شبّاك أحد مباني الأمن والمخابرات شخص يدعى “أبو عماد”، بدأ ينهرها وأمر النساء اللواتي في البوابة بأن يقمن بإخراجها.
تعرض والد آية بعد ذلك لوقائع تعذيب متفرقة، وكان عندما يتعرض للتعذيب يوقفون عليها الزيارة لمدة شهر، ثم يتصل أباها يطلب المهدئات، وحين سألت اية لماذا يفعلون ذلك، قال لها شخص يكنونهُ الباقر: “أبوش بيغلط علينا وعلى ]السيد[. يستاهل وأنتِ ورينا أيش عتفعلي، يالله امشي ولا تفعليش مشاكل حفاظاً على نفسش”.
بدأت بعدها آية رحلة شاقة توصفها بأنها أضافت لعمرها مائة عام. بدأت من اتصالها بشخص ما في رئاسة الجمهورية ثم المحكمة الجزائية المتخصصة، وحينها فقط كانت أولى جلسات المحكمة الخاصة بوالدها قد بدأت، وعلمت وقتها بأن والدها أحتجز اشتباهاً إلى جانب صديقه الذي كان معه. تقول آية: “بعد الجلسة الثانية أخبرني أحدهم أنه تم إطلاق سراح صديق أبي، فأخبرت القاضي حينها محمد السفياني، الذي ثار غضباً وأعاد الملف إلى النيابة الجزائية المتخصصة”.
وهكذا، عادت رحلة الكفاح في أروقة النيابات والمحاكم والأقسام وظلمات الأمن والمخابرات، لتستمر سنة كاملة. تقول آية: “لم يوافق أي عضو من أعضاء النيابة على أن يأخذ ملف والدي”، كانت هي أيضًا تؤدي في نفس الوقت اختبارات الثانوية العامة، فتحاول التوفيق بين مذاكرتها والنزولات إلى المحاكم والنيابات ومواعيد الاختبارات، وكانت في أحيان تصل إلى مقر اللجنة الاختبارية متأخرة لتضطر بأن تذهب إلى الوزارة وتعامل معاملات طويلة وتخضع للاختبار داخل مقر الوزارة.
لجأت آية بعدها إلى وسائل التواصل الاجتماعي وتفاعل معها الكثير في حملة الكترونية بدأت في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، ورغم أنها لم تتوقع ذلك إلا أنه وصلها اتصال في ليلة عيد الفطر الماضي (2023) بأنهم سيخرجون والدها. تقول آية إن فرحتها في تلك اللحظة وسعت الكون، لكنها انهارت عندما طلبوا منها ضمانة تجارية ليلة العيد الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
عادت آية إلى دائرة الإجراءات الطويلة متمسكة بالقانون وبحقها الدستوري وحق أبيها، لا يثنيها في ذلك شيء حتى تحصلت على أمر إفراج من المحكمة الجزائية المتخصصة بتاريخ 4 يناير/ كانون الثاني 2023م.
هنا، وضعتُ قلمي جانباً لقد رأيت في عينيها الوطن، بقوته وضعفه، بظلمه وحبه وبكل التناقضات الموجودة في بلادنا، وشعرت بالفخر بتلك الفتاة الشجاعة، الصلبة وقاطعتها: “آية، كم عمرك؟” قالت لي إنها تحمل بين جنبيها عشرون ربيعاً لا أكثر فأخذت لحظات لأستعيد وجهي الذي أخذته الصدمة.
تحدثني وعينيها تنظر إليّ، عن كيف وقفت بشجاعة تطالب بحقها، ولا تشيح بنظرها عني وتميل برأسها بعيداً وهي تحكي عن مدى وجع أبيها الذي يعاني من مرض في الكبد والسكر وذلك لأنها تشعر بالإساءة وقلة الحيلة تجاهه فتهرب بنظرها بعيداً كي لا تبكي.
تقول آية: “قضيت عشرون يوماً في رحلة مضنية أبحث عن ضمانة تجارية وتحصلت عليها بعد عناء شديد”، وبتاريخ 23 يناير/ كانون الثاني 2023، ذهبت لتخرج أبيها من السجن، لتتفاجأ انه تم الاعتداء عليه مرة أخرى، وبأنهم يرفضون الإفراج عنه رغم أمر المحكمة ورغم إحضارها للضمانة المطلوبة.
آية قصة شبيهة بالآلف القصص التي تجعل من الطفلة اليمنية امرأة بالغة، تدافع عن أحبابها بشجاعة وعزيمة لا تلين. مثال جداً عظيم للمرأة اليمنية المكافحة التي لا تستلم لقلة الحيلة بل تصنع الحياة.
ودعنا اية ذلك اليوم ونحن نشكرها ونشكر قوتها وصلابتها التي تركتنا مشدوهين، ويملأنا الغضب والحزن. إن مطلب آية ليس شاقًّا ولا مستحيلًا، هي تطالب فقط بالإفراج عن والدها، وبأن يحاسب كل من انتهك حريته وكرامته وأبسط حقوقه، فهل هناك من لا يزال يسمع، أم على قلوبٍ أقفالها؟ّ!