كأنه ليس بلدي

منذ العام 2015، يشكل السفر الداخلي هاجسًا لكل اليمنيين، بسبب أوضاع الحرب التي قسمت اليمن إلى عدة نطاقات جغرافية يسيطر على كل نطاق طرف من أطراف النزاع، ما شكّل صعوبة في التنقل والسفر بين محافظات اليمن لدرجة أن المسافر/ة يشعر أنه يسافر من بلد لآخر.

July 1, 2021

1 يوليو/ تموز 2021

منذ العام 2015، يشكل السفر الداخلي هاجسًا لكل اليمنيين، بسبب أوضاع الحرب التي قسمت اليمن إلى عدة نطاقات جغرافية يسيطر على كل نطاق طرف من أطراف النزاع، ما شكّل صعوبة في التنقل والسفر بين محافظات اليمن لدرجة أن المسافر/ة يشعر أنه يسافر من بلد لآخر.

أشعر وكأنني لست في بلدي

راودني هذا الشعور أثناء سفري إلى صنعاء ثم العودة منها. عشت أثناء السفر لحظات صعبة، رأيت فيها مشاهد ومواقف مؤثرة. هذه ليست المرة الأولى التي أسافر فيها، ولكنها كانت الأصعب، كانت الأمَرّ.

بدأت رحلتي من محافظة شبوة عندما سافرت في الثالث من شهر سبتمبر/ أيلول 2020، حيث استقليت عند التاسعة صباحًا حافلة (نوع بلكة) مع مجموعة من المسافرين.

كان الطريق سالكًا منذ أن تحركنا من مدينة عتق (مركز المحافظة)، مرورًا بمديريات نصاب- مرخة- بيحان، حيث تناولنا وجبة الغداء في بيحان، آخر مديريات محافظة شبوة. دخلنا بعد ذلك في محافظة مأرب ابتداءً بالطريق الرابط بين مديريتي حريب والجوبة. أخذ منا الطريق قرابة ساعتين. بعد أن أصبح ترابيًّا، وكان في السابق أسفلتيًّا ويقطع الراكب فيه مسافة نصف ساعة فقط.

عند وصولنا إلى مفرق الجوبة، وهو الطريق المؤدي إلى محافظة البيضاء، والتي سنمر في أغلب مناطقها حتى نصل إلى محافظة ذمار، كان الطريق شبه أسفلتي مع الكثير من الحفر والتحويلات.

نقاط تفتيش الحكومة

كان الجنود يطلبون هُوياتنا عند مرورنا في نقاط التفتيش التابعة لقوات حكومة الرئيس هادي المعترف بها دوليًّا، وكانوا يسألون أسئلة متكررة في كل نقطة تفتيش نمر فيها: من أين أنت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ ماذا ستفعل في صنعاء؟ كان الجنود يقومون بالتدقيق أكثر في المسافرين الذين هم من المحافظات الشمالية.

وفي طريق الجوبة- البيضاء لفت انتباهي مئات الناقلات الكبيرة المتوقفة بجانب الطريق، وأكثرها شاحنات نقل (قاطرات) ممتدة من بداية مفرق الجوبة، وشاهدت سائقيها وهم يفترشون الطريق؛ بعضهم نائمون أسفلها، وآخرون يقومون بإصلاح هذه الناقلات، بينما يتناول آخرون طعام غدائهم.

هذا المشهد تكرر حتى وصولنا المنطقة التي تسبق طريق قانية- البيضاء، حتى استوقفنا اثنان من الجنود يتبعون قوات حكومة هادي، أخذوا هُوياتنا وأرجعوها سريعًا. كان هذا المكان هو آخر معاقل القوات الحكومة المعترف بها دوليًّا، حيث بدا الطريق بعدها شبه فارغ.

هنا أول نقاط الحوثيين

كانت الساعة الرابعة عصرًا. قال لي السائق من هنا تبدأ أول نقاط التفتيش التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، وهذه المنطقة هي منطقة اشتباكات، حيث تندلع بشكل مفاجئ، وخاصة عند حلول الليل.

وصلنا إلى أولى نقاط تفتيش جماعة أنصار الله (الحوثيين) وأخذوا هُوياتنا. تكرر هذا الشي حتى وصلنا إلى نقطة تفتيش في منطقة ما بين قانية- عفار (البيضاء) تدعى نقطة أبو أحمد، حين طلب منّا الجنود الترجل جميعًا من السيارة وأخذوا هُوياتنا. وقالوا لنا انتظروا حتى يتم استدعاؤكم.

كانت هناك غرفة صغيرة بجانب الطريق مبنية بالطوب، وبطريقة عشوائية كان يجلس فيها ثلاثة أفراد، جميعهم لا يتجاوزون عمر العشرين عامًا، إن لم يخنِ التقدير. كان أحدهم يحمل هُوياتنا في يده اليسرى وفي يده اليمنى كان يمسك هاتفه، ثم بدأ بمناداتنا واحدًا تلو الآخر.

كان يقوم بإدخال بياناتنا الشخصية من الهُوية إلى هاتفه، ثم يقوم بسؤالنا عدة أسئلة: من أين أنت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ لماذا تريد الذهاب إلى صنعاء؟ كم رقم هاتفك؟ حتى ينتهي من تسجيل البيانات ويقوم بإعادة الهُوية، حتى انتهى منا جميعًا. استغرق ذلك قرابة الساعة، قال لي السائق: “هم يقومون بذلك ويرسلون البيانات إلى وحدة العمليات، حتى تحصلوا على إذن للسفر في المناطق التي يسيطرون عليها، ويسمى ذلك إبلاغًا”.

بعد خروجنا من هناك كان الطريق سالكًا ولم نتعرض لأي توقيف، حتى وصلنا منطقة رداع- البيضاء وتناولنا وجبة العشاء هناك، ثم أكملنا طريقنا مرورًا بمحافظة ذمار إلى أن وصلنا صنعاء في الساعة الثانية والنصف فجرًا.

تجهيزات العودة

بعد انتهاء الورشة التدريبية في العاشر من سبتمبر/ أيلول، كنت أجهز نفسي للعودة إلى محافظة شبوة. في اليوم التالي وكان يصادف يوم جمعة، وردني اتصال من أحد أصدقائي يخبرني أن طريق البيضاء- مأرب مقطوع بسبب الاشتباكات الدائرة هناك بين جماعة أنصار الله (الحوثيين) وقوات حكومة الرئيس هادي.

وقال لي هذا الصديق أيضًا، إن كثيرًا من المسافرين لم يستطيعوا المرور وقد عادوا من منتصف الطريق، وعليك أن تبحث لك عن طريق آخر.

قمت بالتواصل مع سائق الحافلة التي قدمت معها، وأكد لي أن الخبر صحيح، وأنه محجوز هو الآخر في صنعاء والكثير من المسافرين لم يستطيعوا السفر. ظللت ليومين أسأل وأستفسر عن طريق آخر، وكان لديّ خياران؛ إما إن أسلك طريق صنعاء- الجوف- مأرب- شبوة، أو طريق صنعاء- تعز- عدن- شبوة، وقررت أن أختار الطريق الأول بعد أن استشرت كثيرين.

طرق جديدة

الأحد، الثالث عشر من سبتمبر/ أيلول، حزمت حقيبتي. إنه يوم سفري. لا أدري لماذا انتابني شعور غريب وأنا أقوم بترتيب ملابسي. قلت في نفسي أنا فقط أشعر بالقلق لأنني سأسلك هذا الطريق للمرة الأولى.

كنت قد وجدت سائق حافلة من محافظة شبوة، سيسلك طريق الجوف- مأرب- شبوة وسأذهب معه. بدأت رحلة السفر التي كنت آمل أن تكون أقل مشقة عن الرحلات السابقة من وإلى صنعاء. لطالما شعرت دائمًا بالسعادة تغمرني حين سفري؛ لأنني بطبيعتي أحب السفر، أشتاق للمناظر الجميلة على جانبي الطريق، للهواء المنعش، ولسماع صوت فيروز، حتى إنني أشتاق لبائع الفراولة الذي كنت دائمًا ما أشتري منه لوالدتي.

مصيدة نقيل بن غيلان

كانت الساعة السابعة والنصف صباحًا حينما توقفنا في نقطة تفتيش تابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) في نقيل بن غيلان بين صنعاء ونهم. أخذ أحد الجنود بطائق هُوياتنا جميعًا ثم طلب من السائق أن يتوقف بجانب الطريق. كانت هناك الكثير من المركبات المتوقفة، وكانت أكثرها سيارات أجرة. انتظرنا لعشر دقائق، ولم يأتِ إلينا أحد فنزل السائق ليستفسر عن سبب التأخير.

جاء السائق والجندي معه بعد دقائق، وأخبرنا أن المسافرين من محافظات إب- تعز ممنوعون من السفر والخروج من صنعاء، وأبقى على بطائق هُوياتهم معه، وطلب من الركاب من إب أو تعز أن يترجلوا من الحافلة. كان أكثر المسافرين برفقتنا هم من إب وتعز واضطررنا للانتظار.

أعادوا بطاقتي الشخصية أنا واثنين من محافظة الجوف وشخص آخر من محافظة المحويت، بينما تحفظوا على هويات المسافرين من إب وتعز.

كان هناك شخص مسلح يدعى “أبو عبدالله”، يبدو أنه مشرف النقطة الأمنية، ويجلس فوق صخرة في وسط الطريق، بينما يذهب الجميع إليه ويتوسلونه كي يعيد إليهم بطائقهم ويدعهم يسافرون، لكنه كان يرفض بشدة.

أنتم دواعش

استمر الحال هكذا حتى الساعة العاشرة صباحًا، حيث أتى مسلح آخر يدعى “أبو عمار”، كان حازمًا أكثر، كان يتنقل من سيارة إلى أخرى ويطلب من السائقين الرحيل أو العودة إلى صنعاء، ولكن أغلب السائقين كانوا يرفضون أن يرحلوا بدون الركاب الذين معهم، فبدأ يتعامل معهم بحزم أكثر ويتلفظ عليهم؛ ما دفع البعض للرحيل من المكان ومعهم بعض المسافرين.

كان أبو عمار يقف في وسط الطريق فيلتف الجميع حوله، يحاولون أن يقدموا له مسوغات للسفر، فكان ردّه: “أنتم دواعش تكفيريين ولن تغادروا صنعاء”، حتى إنه رفض مرور النساء والأطفال ممن هم من محافظتي تعز وإب.

قرر سائق الحافلة التي استقليتها العودة إلى صنعاء، واضطررت أنا للبحث عن سيارة ستذهب إلى مأرب وبعدها سأنتقل إلى شبوة في سيارة أخرى. وجدت سيارة (هايلوكس غمارتين) وصعدت معها أنا وآخر من شبوة، وكان معنا مسافر من المحويت وآخر من مأرب وطفل في عمر العاشرة اضطر والده أن يرسله مع سائق السيارة إلى مأرب على أمل أن يلتحق به إذا سمحوا له والآخرين العبور، كونه من محافظة إب.

بدأت رحلتنا إلى مأرب فمررنا من جميع نقاط أنصار الله (الحوثيين) ولم يتكلم معنا أحد، وكأنهم يعرفون أن الخارجين من نقطة نقيل بن غيلان من محافظات مسموح لأبنائها بالمرور بعد إذن أبو عمار.

مررنا بمنطقة نهم وفرضة نهم، واتخذ السائق طريق مفرق الجوف حتى وصلنا إلى منطقة براقش التاريخية، وقد كان فيها سوق شعبي صغير توقفنا فيه للصلاة وتناول وجبة الغداء. كان هناك العشرات من المسافرين ومن مقاتلي أنصار الله (الحوثيين) يتزاحمون على المطعم، ولم يكن لدينا خيار غير الدخول والزحام معهم، بعد تناول وجبة الغداء التي لم نكملها بسبب وجود حشرة في الأرز المقدم لنا، وأكملنا طريقنا إلى مأرب.

مخاطر الصحراء

عند الساعة الواحدة ظهرًا، انطلقنا إلى محافظة مأرب عبر طريق صحراوي هو أهم وأصعب الطرق التي سلكناها وسنسكلها بعد ذلك.

بعد لحظات من تحركنا، عثرنا على سيارة أجرة معطلة بها أُسرة. نزلنا جميعًا لمساعدتهم وقمنا بدفع السيارة إلى الأمام وإلى الخلف في الرمال المتحركة؛ عَل محركها يشتغل دون جدوى. قرر السائق التحرك بعد أن نصح سائق الأجرة الآخر بالعودة إلى أقرب نقطة لتصليح سيارته.

كانت الشمس تتوسط كبد السماء في منطقة شبه استوائية، تصل فيها درجة الحرارة في هذا الوقت فوق الــ35 درجة مئوية، وكان الطريق صحراويًّا مليئًا بالرمال، وهناك العشرات من سيارات النقل الكبيرة أيضًا.

كان سائقنا يمشي بسرعة جنونية حتى لا تغوص السيارة في الرمل، والغبار يدخل إلى جوف السيارة من كل فتحاتها، فأحس بالاختناق، لنشرع جميعنا بالسعال. وعلى طول الطريق شاهدت معاناة المواطنيين أثناء سفرهم؛ لقد شاهدت سيارات معطلة وأخرى قد غاصت في الرمال، شاهدت نساء وأطفالًا وكبار سن مرميين على جانب الطريق، بسبب تعطل سياراتهم أو غوصها في الرمل.

اضطر الناس لسلك هذا الطريق الصحراوي المتعب للهرب من طرق وأماكن الاشتباكات أو الهرب من الطرق الطويلة الملتوية التي قد يقضون فيها أيامًا حتى يصلون وجهتهم، حتى سائقو سيارات النقل الكبيرة اضطروا لسلك هذا الطريق.

فقدت حقيبتي

بعد حوالي الساعة والنصف من المشي في طريق كان من المفترض أن نقطعها في أقل من ساعة، اقتربنا من نهاية الطريق، وفيما كان يحافظ على سرعته كي لا يغوص في الرمال، طارت السيارة في الهواء لتعود وتصطدم بقوة في الأرض، لكن السائق تابع طريقه وكأن شيئًا لم يقع. نظرت للطفل إبراهيم بجانبي، كان مرعوبًا فطلبت من السائق أن يخفف من سرعته حتى ولو غصنا في الرمل، فتوقف وقال تفقدوا أمتعتكم، أخشى أن يكون شيء منها قد سقط مع الاصطدام العنيف للسيارة.

نظرت للأمتعة وكانت حقيبتي غير موجودة، وقلت لهم: حقيبتي سقطت، لنرجع للبحث عنها.  قال السائق: لن أعود، هناك الكثير من الرمال وأخاف أن تغوص السيارة، فقررت العودة مشيًا على الأقدام.

بعد أن مشيت قليلًا، جاءت سيارة وتوقفت، وقال لي سائقها: “هل أضعت حقيبة؟”: قلت له: نعم، قال: “هي معنا”. تناولتها وسحبتها حتى السيارة، وعندما قررنا أن نكمل طريقنا شاهدنا إطار السيارة قد انفجر.

أخرجنا الإطار الاحتياطي ولم يكن به هواء، فقعدنا بجانب السيارة ننتظر قدوم من يساعدنا. كان كلٌّ منا يجلس بمفرده يحاول دفن آثار تعب السفر. مرت ساعتان كاملتان دون جدوى، وكلُّ مَن يمر بجانبنا يعتذر عن إعطائنا إطاره الاحتياطي؛ كونه هو الآخر يسلك طريقًا صعبة.

كان الجو حارًّا والرياح قوية مثيرة للأتربة التي أعمت أعيننا، وماء الشرب نفد منا، وشبكات الاتصال منقطعة في المكان، وهناك أمواج من السراب تغزو الرمال لتحولها إلى بحر هائج الحرارة.

كنت بجانب الطفل إبراهيم الذي بدأت عليه آثار التعب والإرهاق. قمت بتشجيعه والتحدث معه حتى نصرف بعضًا من الوقت الطويل، ثم جاء الفرج مع قدوم سيارة نقل متوسطة، بها خزان هواء، وقام بتعبئة الإطارات لنا ثم قمنا بتركيبه، وتحرك بنا السائق، وبعد ساعة كاملة أخرى وصلنا إلى محافظة مأرب.

مأرب وأضواء عتق

دخلنا مدينة مأرب بعد أن قام جنود تابعون للحكومة بأخذ بطائق هُوياتنا، وأبقونا ننتظر بعض الوقت ونحن في حالة يرثى لها. وردني اتصال هاتفي من والدي وهو في حالة خوف وقلق؛ أراد أن يطمئن عليّ ويستفسر عن سبب انقطاع التواصل، فأخبرته بما حدث. بعدها توجهت إلى فرزة شبوة ووجدت سيارة ستتحرك إلى شبوة. صعدت معه وتحرك السائق على الفور؛ حيث كنت الراكب الأخير.

توجه بنا السائق من طريق صافر- منفذ الوديعة، حيث أخبرنا أنه سيمر بالطريق الصحراوي، قلت في نفسي لِمَ حظي هذه المرة بالطرق الصحراوية؟ وهل سيكون هذا الطريق مشابهًا الطريقَ السابق؟

كان الطريق أسفلتيًّا حتى وصلنا إلى منطقة تدعى “مفرق الرويك” بها مطعم تناولت وجبة العشاء هناك مع بقية الركاب. وبعدها تحرك بنا السائق في الطريق الصحراوي “العقلة- عتق”، وكان الطريق أفضل من السابق (ردمية)، صلبًا ومستقيمًا، ولا توجد نقاط تفتيش حتى وصولنا إلى مفرق شركة العقلة النفطية، حيث صادفنا أول النقاط إلى أن وصلنا إلى مدينة عتق كنا قد مررنا بست نقاط تفتيش، كانوا جميعهم يسألون عن وجهتنا وعن الوجهة التي قدمنا منها.

شاهدت أضواء مدينة عتق أخيرًا، أحسست وقتها بالأمان. دخلنا المدينة وكان أخي بانتظاري في السيارة ليُقلّني للمنزل، والذي بعد أن دخلته أخذني نوم عميق.

ت وقتها بالأمان. دخلنا المدينة وكان أخي ينتظرني في السيارة لينقلني للمنزل والذي بعد أن دخلته أخذني نوم عميق.