إعلان لاهاي-صنعاء

November 29, 2024

منذ إقرار نظام روما الأساسي وإنشاء المحكمة الجنائية الدولية في تموز/ يوليو 1998م، ثم دخوله حيز النفاذ في عام 2002، اكتسبت حركة الكفاح الدولية لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية زخمًا دوليًا استثنائيًا ومهمًا. غير أن لحظة ميلاد أمل جديد للبشرية بوضع حد للإفلات من العقاب اقترنت، لسوء الطالع، بتحديات مفصلية وخيبات أمل متكررة. ومن بين جهات فاعلة متنوعة ارتكبت انتهاكات خطيرة أو وفرت ملاذًا آمنًا لمقترفي الجرائم الدولية، شكّلت بعض الحكومات مصدر التحدي الأساسي لنهج فاعل للعدالة الجنائية الدولية، وسعت عمليًا وبشكل منهجي ومنظّم إلى تقويضه وجعله أثرًا بعد عين.

وفي خضم استمرار الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان غير القابلة للانتقاص في كل من فلسطين المحتلة، واليمن، والسودان، وسوريا، وأوكرانيا، وليبيا، ومالي، وغيرها من البلدان التي شهدت نزاعات مسلحة دولية وغير دولية خلال السنوات القليلة الماضية، تواصل عدد من الحكومات حول العالم سعيها الدؤوب لعرقلة سير العدالة الجنائية الدولية، وازدراء آلياتها القانونية بكل رعونة وعنف. كما تمارس دول ذات نفوذ ومكانة عالمية مرموقة سلسلة من الأنشطة الضارة والشائنة لفرض قيود على الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة الجنائية الدولية، وتمكين حكومات حليفة لها من الإفلات من الملاحقة الدولية على الجرائم والأعمال اللاإنسانية المرتكبة ضد السكان المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. وهذا السلوك يرقى إلى مستوى التواطؤ الجنائي الدولي، الذي يقتضي بحد ذاته مساءلة أخلاقية وضميرية، إن لم تكن جنائية، لمقترفيه.

وسط هذا كله، تسود حالة مريبة من اللامبالاة الصارخة بقواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي تسود بعض مكونات مجتمع المنظمات الحقوقية العالمية، ومواقفها تجاه تحركات القضاء الجنائي الدولي لفتح ملف مساءلة جادة عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي يقترفها قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي وسلطاته ضد السكان المدنيين في غزة. وهناك مشروعية كاملة الآن للتأكد من أن مجتمع حقوق الإنسان لا يزال قادرًا على مواصلة تصميمه على إرساء عدالة جنائية عالمية لا تتأثر بالسياقات أو بتغير هوية الفاعلين وخلفيات الضحايا. وعلى نحو خاص، تمثل الفظائع التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في غزة وبعض المواقف الحقوقية الملتوية منها درسًا قاسيًا للإنسانية التي أخفقت في إيقاف الجرائم ضد الإنسانية في غزة، وتوشك أن تخفق أيضًا في المحاسبة القانونية عليها. إن ضمير الإنسانية المكلوم قطعًا لا يحتمل مثل هذا الإخفاق، ومن المهم لمستقبل حقوق الإنسان العالمية ألّا يحدث ذلك مرتين.

لتلافي ذلك، يجب العمل على إيجاد إجماع متزايد بشأن التحديات الذاتية التي تواجه ثقافة عالمية متجردة، تركّز على أولوية مكافحة الإفلات من العقاب في مختلف السياقات العالمية وعند مختلف الظروف. وبموازاة إدانة الجرائم وشجب العنف المستفحل الذي تمارسه الحكومات والمجموعات الفاعلة في العديد من مناطق النزاعات المسلحة حول العالم، يجب البحث في الإطار الخلفي لعالم المنظمات الحقوقية عن إجابات قاطعة للأسئلة المتعلقة بالشمول والالتزام الكامل بحقوق إنسان عالمية وغير قابلة للتجزئة. هذا الالتزام شرط لاستعادة ثقة الضحايا وذويهم ومجتمعاتهم بأن حقوقيي العالم لا يزالون يعيشون في وئام طبيعي مع مبادئهم الأصلية، وعلى استعداد للوقوف صفًا واحدًا في وجه ثقافة الإفلات من العقاب، ودعم آليات الانتصاف والعدالة الجنائية الدولية لمدى طويل مهما كانت العواقب. ومن الضروري أيضًا، وضع الحقوق الجماعية للشعوب في مجرى الكفاح اليومي من أجل حقوق الإنسان الفرد، وفي مقدمة ذلك الحق في تقرير المصير، وحق الشعوب المحتلة في مقاومة الاحتلال، وأن يجري التأكيد على أن قرارات الشرعية الدولية بشأن حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة وغير القابلة للتصرف ومبادئ حقوق الإنسان الفردية صنوان لا يفترقان.

وعلى نحو خاص، تستحق مجموعة الدول التي لا تزال ترفض نظام روما الأساسي وتقاومه بشراسة غير معهودة إدانة خاصة من مجتمع المنظمات الحقوقية الدولية، إذ ليس هناك من طريقة مختلفة لفهم رفض العدالة الجنائية الدولية سوى وجود نية مبيتة لارتكاب فظائع جديدة أو تبرير ارتكابها، والاستمرار في ممارسة الإفلات من العقاب.

وعليه:

نناشد المجتمع الدولي، انطلاقًا من مسؤولياته المشتركة في حفظ الأمن والسلم الدوليين وتعزيز واحترام حقوق الإنسان وحرياته، ووضع حد للانتهاكات والفظائع التي تُرتكب في سياق النزاعات المسلحة، بالعمل على تشكيل آليات دولية مستقلة ذات طابع جنائي لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والتحقق منها، وجمع الأدلة بشأنها لضمان مساءلة المسؤولين عنها من الأنظمة والجماعات، والانتصاف للضحايا، ودعم جهود كلٍّ من المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية وتعزيز أدوارهما الرامية لتحقيق المساءلة والعدالة الدولية والامتثال للقوانين الدولية، والالتزام بالقرارات الصادرة عنهما، والتعاون من أجل تطبيقها، واتخاذ تدابير حقيقية وفورية لإنهاء سياسة الإفلات من العقاب ووضع حد للانتهاكات والفظائع التي تُرتكب حول العالم.

وندعو الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى العمل على خلق ضغط دولي على الدول والجماعات المنتهكة لحقوق الإنسان، والدفع نحو اتخاذ قرارات فعّالة وحاسمة بشأن المساءلة وتعزيز العدالة الدولية، والعمل على إنشاء لجان مستقلة من الخبراء لتقييم حالات انتهاكات حقوق الإنسان في مناطق النزاع وتقديم التوصيات اللازمة بشأن المساءلة في هذه المناطق، وبذل كافة الجهود الممكنة لمحاسبة الجناة وتعزيز الالتزام بالقوانين الدولية من خلال تبادل المعلومات وتنسيق الجهود بينها وبين المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية والهيئات الدولية الأخرى لضمان المساءلة، والإسهام في تذليل الصعوبات التي تعترض جهود المساءلة.

ونطالب مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بتحمّل مسؤولياته وأدواره في حفظ الأمن والسلم الدوليين، واتخاذ تدابير فعالة لإنهاء النزاعات التي تقوض أمن وسلامة ملايين المدنيين حول العالم وتهدد الأمن والسلم الدوليين بشكل غير مسبوق، كون استمرار هذه النزاعات يهدد بتفجر نزاعات أوسع نطاقًا وأكثر تدميرًا، ويسهم في توسع دائرة الفظائع والمآسي والأزمات الإنسانية حول العالم. كما يجب عليه، وانطلاقًا من مقاصد الأمم المتحدة في الحفاظ على حقوق الإنسان وحرياته وتعزيزها، وباعتبار السبيل الوحيد لوضع حد للانتهاكات المرتكبة في سياق النزاعات يكمن في تحقيق مساءلة حقيقية وفورية، أن يتخذ قرارات حاسمة نحو مساءلة المنتهكين لحقوق الإنسان في العديد من البلدان التي تشهد نزاعات مسلحة، وإحالة ملفات بلدان كاليمن وسوريا وغيرها من البلدان التي تشهد نزاعات تُرتكب فيها انتهاكات لحقوق الإنسان إلى المحكمة الجنائية الدولية، وتشكيل آليات تحقيق دولية مستقلة ذات طابع جنائي لتوثيق الانتهاكات والتحقق منها، وجمع الأدلة وحفظها لضمان محاسبة المسؤولين عنها وإنصاف الضحايا. وعلى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي التوقف عن الاستخدام غير المسؤول لحق النقض (الفيتو) لإجهاض القرارات المتعلقة بتعزيز العدالة الدولية وتحقيق المساءلة في البلدان التي تشهد نزاعات مسلحة.

كما نطالب مجلس حقوق الإنسان، باعتباره الجهاز المعني بتعزيز حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في الأمم المتحدة، بالعمل على إنشاء آليات رصد دولية لتوثيق الانتهاكات في مناطق النزاع، وتعزيز القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان من خلال دعوة الدول الأعضاء إلى اتخاذ تدابير حقيقية وملموسة لإنهاء سياسة الإفلات من العقاب عن الجرائم والانتهاكات المرتكبة في سياق النزاعات المسلحة، والتنسيق مع المنظمات الدولية غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني في بلدان النزاع لتعزيز جهود الرصد والمساءلة، وتشكيل فرق تحقيق دولية مستقلة للتحقيق في الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان في البلدان التي تشهد نزاعات مسلحة، والدفع نحو امتثال الدول الأعضاء لقرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية بشأن هذه البلدان.

ونحث محكمة العدل الدولية على وضع وتطوير آليات لتسريع النظر في القضايا العاجلة المنظورة أمامها والتي تقع ضمن ولايتها وترتبط بحقوق الإنسان، كادعاءات الإبادة الجماعية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية المقدمة من أوكرانيا ضد روسيا، ومن حكومة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وقضية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس التي تقدمت بها فلسطين ضد الولايات المتحدة الأمريكية، والقضايا المماثلة الأخرى. كما نحثها على إصدار الآراء الاستشارية بشأن القضايا الخلافية التي قد يترتب على عدم البت فيها ارتكاب المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان أو السماح باستمرار جرائم مثل جريمتي الفصل والتمييز العنصري وغيرها من الانتهاكات والجرائم الدولية. ونحثها كذلك على العمل لضمان شفافية الإجراءات من خلال نشر المعلومات والتحديثات المرتبطة بالقضايا المنظورة أمام المحكمة بانتظام، وتطوير آليات للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الإقليمية والوطنية لتبادل المعلومات والتنسيق بهدف تسريع إجراءات التقاضي، والعمل على توفير منصات تفاعلية للدول والمجتمع المدني لمناقشة القضايا المهمة على المستوى الدولي التي تُعنى بها المحكمة، ولا سيما القضايا الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان وخرق الاتفاقيات المتعلقة بها.

كما نحث المحكمة الجنائية الدولية على بذل المزيد من الجهود لتحقيق المساءلة الجنائية وتعزيز العدالة الدولية في القضايا المنظورة أمامها أو تلك التي تقع ضمن ولايتها، والعمل على مقاضاة المسؤولين عن أكثر الجرائم جسامة ومعاقبتهم، بما في ذلك القضايا المنظورة أمامها بشأن الوضع في غزة الفلسطينية، أوكرانيا، ليبيا، والإبلاغ المقدم للمحكمة بشأن استمرار تصدير الأسلحة لدول التحالف بقيادة السعودية والإمارات، والتي ثبت تورطها في ارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني في اليمن، وغيرها من القضايا المماثلة في سياق النزاعات المسلحة. ونحثها أيضًا على إصدار طلبات لإصدار مذكرات اعتقال بحق كبار المسؤولين ممن ارتكبوا هذه الانتهاكات، والعمل على ضمان شفافية الإجراءات من خلال نشر المعلومات والتحديثات المرتبطة بالقضايا المنظورة أمام المحكمة بانتظام، وتطوير آليات للتعاون مع محكمة العدل الدولية والمحاكم الإقليمية والوطنية لتبادل المعلومات والتنسيق بهدف تسريع إجراءات التقاضي، والعمل على توفير منصات تفاعلية للدول والمجتمع المدني لمناقشة القضايا المهمة على المستوى الدولي المنظورة أمام المحكمة.