طلب منّا الطفل المسلح أن نركن السيارة على جانب الطريق، وأن نعطيه البطائق الشخصية. ناوله صديقي بطاقته المهنية (التي تخص جهة عمله) بدلاً من البطاقة الشخصية. أخذ الطفل بطاقة صديقي وسأله ما هذه البطاقة؟ ألا يوجد معك غيرها؟ ردّ صديقي: لا يوجد معي إلا هذه. صمت الطفل وسمح لنا بالمواصلة.
دقت الثامنة والنصف صباحاً، رن هاتفي: صباح الخير محمد، الباص جاهز.. هيّا نحن ننتظرك..
قبل الحرب كنت استطيع السفر من حيس إلى صنعاء مباشرة، لكن مع انقطاع الطريق الرابط بين مديريتي حيس والجراحي التابعتين لمحافظة الحديدة غربي البلاد، بسبب مناطق التماس العسكرية، وتمركز كل طرف في جهة أصبح السفر مرهقاً جداً. وبدلاً من السفر 350 كيلو متر في رحلة مدتها ست إلى سبع ساعات، أصبحت مجبراً على الذهاب من حيس غرباً إلى عدن جنوباً للوصول إلى صنعاء شمالاً في رحلة تستغرق 24 ساعة سفر.
هناك -أيضاً- طرق فرعية أخرى تمر حالياً من مديرية حيس إلى مديرية شمير لكنها مزروعة بالغام ومنطقة اشتباكات، وإذا سلمت من هذا لن تسلم من الاعتقال، خاصة وأن الشباب القادمين من حيس- الخوخة يتم تصنيفهم واتهامهم بأنهم يعملون مع الطرف الآخر، ولهذه الأسباب اتخذت قرار السفر إلى صنعاء عن طريق عدن.
بعد حوالي خمسة كيلو مترات من خروجنا من مديرية حيس- محافظة الحديدة ، صادفتنا أول نقطة عسكرية ، وكانت تتبع اللواء السابع عمالقة (السلفي) وهو أحد ألوية القوات المشتركة المدعومة إماراتيًا. استوقفنا الجندي فيها ثم قام بتفتيشنا وسأل عن وجهتنا، رد عليه سائق الباص: إلى عدن إن شاء الله. واصلنا إلى مديرية الخوخة ثم إلى المخا.
كانت الساعة تشير إلى الـ11:30 صباحاً عندما وصلنا مدينة المخا. توقفنا لشراء القات وتناول الغداء والذي استغرقنا حوالي 40 دقيقة، ثم أكملنا المسير.
عند الساعة الـ04:30 عصراً وصلنا منطقة أقرب للوهط بمحافظة لحج (جنوب البلاد) بحوالي 25 كيلو متراً. في نقطة تفتيش تابعة للمجلس الانتقالي، استوقفنا طفل مسلح يبلغ من العمر حوالي 15 سنة، ويلبس فنيلة ذات لون رمادي ومعوز(إزار)، وشال ذو لون بني.
طلب منّا الطفل المسلح أن نركن السيارة على جانب الطريق، وأن نعطيه البطائق الشخصية. ناوله صديقي بطاقته المهنية (التي تخص جهة عمله) بدلاً من البطاقة الشخصية. أخذ الطفل بطاقة صديقي وسأله ما هذه البطاقة؟ ألا يوجد معك غيرها؟ ردّ صديقي: لا يوجد معي إلا هذه. صمت الطفل وسمح لنا بالمواصلة.
واصلنا المسير، وبعد حوالي 25 كيلو متراً، وصلنا نقطة الوهط بمحافظة لحج، حيث تسيطر قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا، ويشكو أهالي الحديدة من إعاقة هذه النقطة لسفرهم إلى مدينة عدن. كان يتواجد بجانب النقطة على قارعة الطريق حوالي 30 شخصاً من الحديدة، تم إيقافهم ولم يسمح لهم بالدخول إلى عدن.
وشاعت في فترات متفرقة من الحرب، ممارسات ذات طابع مناطقي، تقوم بها جهات أمنية تتبع المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم إمارتياً، ما عرقل الكثير من المدنيين الشماليين، الذين لديهم مصالح معيشية في الجنوب من الوصول إليها.
استوقفنا أحد عناصر المجلس الانتقالي في النقطة التي يتواجد فيها أكثر من 20 مسلح. سأل السائق: من أين قادم؟ رد السائق: من المخا. أمره الرجل المسلح أن يركن سيارته، وأشار إلى زميل له ليقوم بتفتيش السيارة التي نستقلها.
أخذنا جانب الطريق، كان المسلح يبلغ من العمر حوالي 20 سنة. طلب منا البطائق الشخصية، ناولته جواز سفري. أخذ بطائق المسافرين والجواز، وعاد بها إلى آخر في حوالي الـ30 من عمره، ثم عاد إلينا.
طلب الرجل المسلح مني، ومن شخصين آخرين الترجل والنزول، وقال لنا: عودوا من حيث أتيتم، أما بقية الذين في الحافلة يواصلوا مسيرهم. سألته: لماذا نحن؟! رد: هكذا، وإذا لديك شيئاً فلتذهب إلى القائد.
نزلتُ ومعي الاثنين الآخرين، كان القائد في الجهة المقابلة، ذو لحية كثيفة، ويمضغ القات جالساً في مقعد السائق على متن عربة عسكرية عليه شعار الحزام الأمني قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا. صحبنا إلى هناك الشخص الذي طلب منا البطائق والذي كان لا يزال جواز سفري معه.
وصلت إلى عربة القائد، وأخبرته: قلت له أنا أعطيتك جوازي ولم أعطك بطاقة المنظمة التي أعمل فيها، قال القائد: هااا، هل أنتم مع منظمة؟ أجبته: نعم، وأريته بطاقة العمل، رد: إذن واصلوا.
وعدت والاثنين معي، وكأننا جميعاً نعمل في المنظمة، بينما لم نكن كذلك.
صعدنا الباص وانطلقنا. كان أمامنا طريقين لنسلكهما إلى عدن، إما طريق البريقة أو طريق بئر أحمد. أخذ السائق طريق بئر أحمد لأن طريق البريقة فيها نقاط تفتيش يصعب التفاهم معها. وصلنا عدن وقت صلاة المغرب، ثم واصلت إلى فرزة البيجو (محطة نقل داخلية)، للبحث عن مسافرين إلى صنعاء. سألني أحد السائقين هناك: إلى صنعاء؟ قلت: نعم.
كان يبدو أنه لا يوجد مسافرين في هذا الوقت، صعدت المركبة. كنت مرهقاً من السفر إلى عدن. انتظرت حوالي نصف ساعة، لكن لم يأت إلا شخص واحد فقط. هممت على النزول والذهاب إلى أقرب فندق لأبيت ليلتي في عدن، لكن السائق كان لديه بريد (إرساليات) إلى صنعاء ويريد السفر على أية حال.
بعد ذلك قدم شخص آخر فأصبحنا أربعة بما فيهم السائق. تحركنا بعد صلاة العشاء وتناولنا وجبة العشاء في أحد مطاعم عدن، ثم واصلنا المسير. تحركنا باتجاه وادي القبيطة. كانت الساعة تقارب الـ12:00 منتصف الليل، عندما دخلنا على الوادي.
استغرقنا في السير داخل الوادي حوالي ساعتين، لأن الطريق كانت صعبة، ثم دخلنا مناطق سيطرة جماعة أنصارالله (الحوثيين)، وكانت أولى نقاط تفتيشهم. سألنا أول مسلحيهم: إلى أين ذاهبون، رددنا عليهم: صنعاء. ثم واصلنا إلى منطقة الراهدة، وورزان، ودمنة خدير، ثم إلى مدينة تعز.
في نقطة حيفان استوقفنا مسلح يتبع لجماعة أنصار الله ” الحوثيين”، وسأل ذات السؤال عن الوجهة، ثم قال لي: أنت نزلت إلى عدن قبل ثلاثة أيام، لتستلم راتبك، والآن راجع إلى صنعاء؟ رديت عليه: أي راتب تقصد؟ قال لي: أنت عسكري، أليس كذلك؟ أجبت بالنفي: لا. أمرنا بالتحرك رغم امتعاضه.
واصلنا المسير، عند حوالي الـ07:00 صباحاً، استوقفتنا نقطة مدينة ذمار، وسألونا سؤال القدوم، فأوضح لهم السائق: من عدن. طلب بطائقنا الشخصية، وأخذها. قام بمقارنة الأسماء بدفتر لديه، ثم أعادها إلينا.
واصلنا السير، وعند الـ09:30 صباحاً وصلنا إلى صنعاء بعد يوم كامل من السفر دون توقف. كان جسدي أشبه بكهل بلغ قرناً من عمره يريد أن ينهض من مقامه فلا يستطيع.